التطبيع مع الخارج
لبنان، أمر داخلي من الخارج. هو بإختصار هكذا. ينام على أمر. ويستيقظ على أمر. ويتأسس بأمر. يزدهر بأمر. ينتحر بأمر. حياته كلها أمر داخلي يظهر في الخارج. ثم يعود إلى لبنان. يقطع وقته بين الأمر والأمر، على قاعدة من القول القديم: إن “الحياة ظهور أمر داخلي في الخارج”.
ليس في بلدان العالم، بلد شرع نوافذه للخارج قبل لبنان. أو قل أكثر من لبنان. ليس في بلدان العالم، من شرع نوافذه وفتح أبوابه، ووسع شرفاته، وأقام المظلات والمناظر والمناطر، والمطلات على الخارج، أكثر من لبنان. وليس في العالم، بلد حمل أوراقه، دفاتره، مغزله، رفشه، معوله، ورأسه، وأدار ظهره للداخل، وخرج إلى العالم، شاهرا نفسه، في وجوه أهله قاطبة، بلا خشية ولا خوف، أكثر من لبنان.
كان الخارج أقرب إليه من قفزة أرنب في معبور. بل أقرب من قفزة برغوث صغير حقير. كان الخارج أقرب إليه من ظهر موجة تنسج الزنبق. تقلق الزئبق. تحمل موجة على حسكة فوق البحر.
عاش لبنان حياته، بإعتبارها أمرا داخليا، يتجلى أكثر ما يتجلى في الخارج. وإنتهت مصارحته لنفسه على هذا الشكل. ولذلك تصالح مع نفسه منذ أول التاريخ، و”طبع” مع الخارج. خرج من الداخل إلى الخارج، تصالح معه. آمن به إمتدادا له. وضع رجلا في الداخل، ورجلا في الخارج كتاجر عتيق، أو كرجل أعمال عريق، بصيغة فلاح عتيق، يضع رجلا في البور، ورجلا في الفلاحة.
لبنان كثير. كثير. بل كبير. كبير.يصغر العالم عليه. يصغر تحت عينيه. إعتاد عليه، فلا يخاف من الخارج، حين يغادر الداخل، مهما كثرت أهواله. ولا يخاف من الخارج مهما كثرت ألغامه. ولا يخاف من الخارج، مهما تعاظمت الدنيا، مهما تآطرت وإختلفت عليه.
التطبيع مع الخارج، لهذة الأسباب كلها أو بعضها، رسالة لبنانية. حملها على كتفيه، منذ أول دهره. وما ناءت كتفاه بها. فلا يخشى أهله اليوم، وقد هبت عليهم العواصف، من كل جهات الأرض. يرون فيها، محض أنسام الربيع. يرون فيها، محض تيار هوائي، يعبر عن الطبيعة، عن الطقس. يرون فيها، ربما، غارة من ثلج.
فهل يحلو لبنان، بلا معطف من ثلج. هل يحلو قرميده بلا ثلج. هل تحلو بواباته، قناطره، مناطره، شرفاته. هل تحلو بقاعه، جباله، سواقيه، وديانه، أنهاره، سواحله وأرزه، بلا غارة من ثلج. بلا معطف من ثلج.
لبنان اليوم، “يطبع” مع جميع العواصف التي تهب عليه. يرى فيها بعض رياح النواحي. بعض رمال البوادي بعض حياة الفلوات والفيافي. بعض حياة الشواطئ، والخلجان والجزر والسواحل. بعضا من المد، وبعضا من الجزر.
يرى في كل العواصف التي تهب عليه من الخارج، بعض ثلوج المواسم، بعض صقيع المجاهل. بعض صفير الرياح، حين تقترب الفصول من مواعيدها. حين تحل الفصول ضيوفا على أهله، قبل أن يأخذ المطر بالهطول. وقبل أن يؤذن للرصاص المصبوب، أن يزور الناس، ويرسم لهم دروب النزوح. يرسم خارطة الطريق، للجهات المانحة. أن تأخذ “قيلة” في الطريق.
لبنان اليوم في عين العاصفة. تعود أن تكون حياته، مجرد حلم بسيط مجرد ظهور في منام. مجرد حلم من الأحلام. مجرد “ظهور أمر داخلي في الخارج”.
ما عاد الأمر يفزع لبنان. فهو كل يوم يقرأ طالعه في الشمس. ثم يصحو بغتة، على أمر جديد. يحمله على مأخذ الجد. يذهب لغسل يديه. يذهب لغسل وجهه. يذهب لغسل يومه السابق، بيوم جديد. يستعير من إبهامه بصمتها. ويقرأ من أفكاره، سكرتها. يستعد للتطبيع مع الخارج مثل أمر داخلي إعتيادي.