أمواج سمر – الجزء الأول :
(قصة سردية تنتمي إلى أدب السيرة الذاتية )
الحلم الجميل
يوم ولدت، عمّ الحزن عائلتنا. كان الأقارب يتمنون لو كنت صبيا. وكانت جدتي لأبي تحب الصبيان، ولم تخفِ خيبة أملها عندما عرفت أن المولود فتاة. خرجت من البيت غاضبة ولم تعد تزورنا.
ولم تعرف ما جرى بعد رحيلها. وذلك لأن والدتي عانت أزمة كبيرة خلال ولادتي، وكادت تفارق الحياة، فأجبر الأطباء على إخراجي في عملية قيصرية. كانت نتيجتها استئصال الرحم. بيد أن العملية لم تخل من خطأ طبي اقترفه الطبيب، كانت نتيجته موت والدتي.
.. وبما أن الخورية كالصنوبرة، إذا قطعت لا تفرخ، فهذا يعني أن غودو، ولي العهد، لن يأتي. وهذا يعني أيضا أني سأبقى وحيدة، ولن يكون لي أخ أو أخت.
أما والدي فلم يقل شيئا إثر الحادثة المؤلمة التي أصابت العائلة. كان إنسانا مؤمنا، ولكن بغير تعصب.
تلقى خبر وفاة والدتي بهدوء المؤمن. بقي صامتا كزكريا مدة أربعين يوما. لم يقبل أن يهتم بي أحد غيره. كان يأخذني معه، كما أخبرتني جدتي لأمي، إلى مستشفى أوتيل ديو، حيث كان يعمل. حاولت جدتي الثانيۃ وبعض الممرضات أن يساعدنه، ولكنه كان يرفض بإباء.
.. وبعد رحيل والدتي، وغياب جدتي، والدته، كان عليه أن يكون الأب والأم، في آن، لوردة نمت في الظل.
ما أقساك أيها القدر! وما أغربك!
غادر أنت فما الذي عن الغدر يغربك؟
تأخذ بيد، وتعطي بيد. فويل للبعيد، وويل لمن يقربك.
..ومرت السنوات. لم أشعر بغياب الأم. ولكن الظلال اتسعت دائرتها حول أبي. فاجأته يوما وهو يبكي بصمت في غرفته.كان يظنني نائمة. مسح دموعه بسرعة، وعادت الابتسامة إلى وجهه. لا أذكر ما كان جوابه حين سألته عن سبب دموعه.
كان أبي كاهنا يوم الأحد، وعاملا في مستشفى أوتيل ديو، في أيام الأسبوع.كانت المستشفى بيتي الثاني، أعيش في جنباتها قسما من حياتي.ولعله القسم الأكبر. ثم دخلت المدرسة وأنا في السادسة من عمري.
أما في المساء، فكان له شأن آخر، لا علاقة له بالمدرسة كان والدي يقرأ على مسمعي آيات من الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد. كنت أسر بقصة يوسف، ذلك الصامت الأكبر.
ثمة شخص آخر يحمل اسم أبي. كان يروي لنا قصته. وكنت أبكي حين أسمعها، خصوصا عندما كان يخبرني كيف باعه إخوته، وكيف عذب، فأسأل أبي : أهي قصتك وأنت طفل؟ فيبتسم ويقول: لا يا حبيبتي. إنها قصة قرآنية.وكم كان يعجبني صوت أبي وهو يجود آيات القرآن، بشكل فنّيّ بديع.
وكبرت. وكان أبي يطلق علي اسم يوسفية تحبّبا. فكثر حولي الخطاب. ولكني كنت أرفضهم. لم أجد فيهم من يشبه أبي. لم أكن مصابة بعقدة الكترا. ولكن ذوقي كان صعبا، في اختيار من يهفو إليه قلبي، أنا التي عشت أسيرة ليلى العامرية، وشهرزاد، وسلمى كرامة، وغادة الكاميليا…وغيرهن من شهيدات الحب. فكنت أقول في نفسي: لن أتزوج، الا فارسا أميرا يأتيني على حصانه الأبيض. فارسا يحقق لي حلم حياتي.
وأتى الفارس، ولكن بلا حصان. كان اسمه مثل أبي: يوسف. ابن أبو ناجي. رأى فيّ موناليزا حياته. رأيت فيه حلمي الذي كنت أبحث عنه، منذ ولادتي.
طلب يدي للزواج. لم أقبل، لسبب وحيد: أنني أحببته حبّا جمّا، ولم أرد أن أستيقظ من حلمي الجميل.
بقلم : سمر يوسف الخوري