الكاتب يوسف طراد يقرأ : “أنا… بيروت” لميشلين مبارك ضياءٌ من حَدَقِ الكلمات..
( نقلا عن صحيفة “النهار” اللبنانية )
-×-×-×-×-×-×-
هل تُخرج ميشلين مبارك الضياء من حَدَقِ الكلمات؟
نعم! وإنّها لكذلك.
وهل نعلم أنّ كلّ ذي مستوى سمته السَنا؟ ولكن إذا أتيح لتلك الشاعرة البهيّة البوح، أن تحتفظ بمكان في موطن النور، يا سعدها حينها إذا خطّت كوكبة دواوين، كديوان “أنا… بيروت”!
هل الدّمعة ذُرَّة جسدٍ؟ وإن يكن، فقد تحوّلت في الديوان إلى دُرَّة روحٍ عند وشيجة الدمع والوقت: “تعال نُحرّك الوقت عند بزوغ الدّمع”.
هل يذبل الضّباب في رعشة برقٍ، وتتلاشى التلال في عنفوان عاصفةٍ ضربت الوطن؟، “لحبٍّ يغفو ويصحو في قلبي/ لوطنٍ من وهج وضباب”.
شاعرة كتبَتْ نزيف الدروب إلى الوطن، عندما أزهرت جنائنه جراحًا، فكان بوحها من الألم أنشودة، غفا على أنغامها الدهر، “سكنت بي رصاصة/ ضمّني نزيف/ أزهرت جراحي/ حبًّا لا يموت/ لك وطني…”.
كان الجليل يسرح مع الأخضر تلالًا، وبقيت الشّاعرة هاربة مع حلم الحجّ إلى بيت جالا، قبل أن يعانق صديقها بيروت، “حُرمت من الحجّ/ إلى بيت جالا/ إلى فلسطين…/ أمّا أنت/ فرأيتك تعانق بيروت”.
أيّتها السّاكنة في الفضاء، أنت حقَا ساكنته، ودخلت الدنيا من أبواب الفراغ، وقد رسمت على أعتابها ملامح الحياة، “كيف أرتقي إلى الحياة/ وأنا على أبواب الفراغ”.
وقعت ميشلين فريسة الوقت المتثاقل بملل المسافات، حين أحزنها خواء الأماكن، فكتبت لتبديد غمام الأوان الهالك دون معنى، “ينصهر وقتي في الّلامكان/ في الّلاشيء/ يتآكلني الوقت”.
وحدها الأم، تطرد الشّك، بأعجوبة غرس الألوهة في حشا العذراء. يا لها من تبعيات حريّة الخَيار!
زرْع المُهْجَة مع القمح والكرمة، لتصعد الروح عبر خالقها بعد تدحرج الحجر، وتصبح السنابل جسدًا وطعامًا، وعصائر الكرمة دمًا محييًا في الإفخارستيّة،
“غرستُ أطفالي أمطارًا وصلوات
أوصيتهم بألاّ يناموا باكرا
هدأ الصمت…
خضع الّليل لأصوات الفرح
تدحرج الحجر
فنبت القمح
صارت الأرض
قيامة…”.
شاعرة لكلّ الفصول، تلجأ الزهور إلى أوراقها، كلّما ضاقت ذرعًا بعواصف الشتاء، وتبتهل صلاةً قبل أن يأسرها وحي الحروف، وتنام حتّى الحلم في رحيق الحبر المتوقّر،
“أتجاوز حكايات الفصول
ألتقط أنفاس الزهور
أنثر ماء الحروف
فتنبت على كفي رُزمة أوراق”.
محال، أن يصدر عن قصائدها، غير فعل المحبّة، هي من أدركت قصِيَّ أبعاد الأسرار، وتهيّبت لحضور الخالق في سحر الزّيت ميرون العماد، الزّيت المقرون بمحبّة الرّب، “مع عصر الزيتون وضحكة الصّغار/ يمتزج الحبّ في الزيت/ وأذوب بصدى صلاة في الوادي…”.
يقول الأستاذ جورج عقيص في كتابه (أخذني بعض الوقت لأفهم…): “حين تكون البلابل صامتة تسمع نحيب البنفسج”، لكن هنا يُسمع النحيب غناء ألوانٍ، وتُفتن الأزهار بندبة جرحٍ اِلتأم من طهر الاشتياق، “البنفسج…/ معه/ يلتئم جرح الغياب/ وتنطلق الألوان تغني…”. هل من نشيدٍ، من حنجرة أي منشدٍ رهيف الإحساس، يفوق تعظيمًا، وفتنةً، وعذوبةً، نشيد حبٍّ يصدح به العشّاق أمام الرب؟ “أنثر صلواتي في صدى صوته/ ليعبر أدراج الحياة”.
عدنا مع الشاعرة، إلى حكايات الجدّة، وقصّة المطحنة العجيبة التي طحنت الملح بدون توقّف، فرمتها صبيّة في البحر، وما زالت تطحن الملح في قعر المياه إلى يومنا هذا. فهل أن بوح الشاعرة دموع مالحة لكلّ العيون، روت بها ظلال الحلم الراقص على شرفات بعيدة، “أسكب الملح في البحر/ أسقي ظلال الحبّ من بعيد”.
“أنا… بيروت”! نفخر بك سيدتي الجميلة، حين تجفّفين الحزن عن المدينة، بابتسامة قصائدك الشريدة، وهي تتلو صلاةً في كلّ دربٍ، كي تبدّد كلّ ظلامٍ وعدمٍ. وهمٌ، كلّ عشق شعبٍ، لا يحصر الوجود في مدينته المعشوقة، فتسأم الحبّ المهادن، وتهرب من عبوديّة أقفاصٍ وهميّة. ماذا تقول النجوم، وهي تقرأ جهرًا حرفًا صامتًا لشعب لا يموت؟ ليتها تدرك أنّه تحوّل إلى قصائدٍ، ولوحات فسيفساءٍ، وأنغامٍ، وأنصابٍ تضيء الدروب.
اِختالت بيروت في القصيدة، بفتنة غجرية راقصة، حين رسمت الشاعرة جمر الأشواق، فوق أهداب الأقدار بنار العذاب، وأبحرت في يمّ الأمواج التي تجيد العزف في صخب العاصفة، فعناق المدينة آسرٌ بطعم جوع أطفالها إلى الحليب المفقود.
أين السرمد، من تلك القصائد التي وصفت المدينة بدمٍ جُمِّدَ حبرًا؟ وأهدتها أزهارًا بزوارق ورقٍ، أُنزلت في بحار الخواطر، وحفظت حقّ بيروت حيًا في أعين القلوب والعقول، وجعلتنا نردّد مع عاصمتنا الحبيبة من سطورها: “رفقًا بي يا شاعرة…/ فأنا لست من جماد…”.