بيتي القديم
-×-×-×-
لا يزال يطل علي من بعيد، وأنا أنحدر، ماشيا أو بالسيارة من الجبل الغربي المقابل، حيث بلدة شدرا الغربية. يبدو بين بيوت القرية التي تحوطته من كل جانب، وإعتدت على خراجاته المحيطة به من كل الجهات، مثل عجوز متزمل، إلتف بعباءته، وأخذ مكانه على مرتفع بسيط لا يبعد سوى بضعة أمتار عن الطريق العام، بين بلدتي مشتى حسن، وبلدة شدرا المتصلة بها. مرتفع يشرف على الحقول والبساتين، التي لم تعد حقولا ولا بساتينا. بيت صغير من شقتين، وبينهما ليوان مرتفع قليلا عن أرض الشقتين، يصل بينهما، بممر رصفت أرضه بالبلاطات التي يعود نموذجها الإيطالي إلى اوائل القرن العشرين، و التي كانت تجيء إلى طرابلس، من وراء البحر.
غرفة غربية، يعلو سقفها القرميد الأحمر. ولها أربعة شبابيك. غربية وشمالية، تتآخى شباكين شباكين. تستقبل الهواء والشمس، على مدار اليوم. لا زال خشب سقفها المزين بالألوان والرسوم، يحمل “موديل” تأسيسه القديم.
وأما الغرفة الشرقية، فكانت ذات شباكين، واحد لجهة الشمال، والآخر لجهة الجنوب، يسند “يوكا”، كانت الفرش ترفع إليه، بعد نهوض العائلة من النوم. كانت الغرفة الشرقية، هي مسكن جميع أفراد العائلة، في الليل وفي النهار. وفيها سرير واحد لأبي. وأما الليوان، فكان ردهة للإستراحة تمتد بالنظر إلى الدار والمطبخ وغرفة المونة والدرج عليها والسطح. تتوسطه طاولة السفرة. وتصطف حولها كراسي الخيزران المقششة من كل الجهات. وكان له ثلاثة شبابيك واحد لجهة الجنوب، والثاني يطل على الغرفة الشرقية والثالث يطل على الغرفة الغربية. وقد إمتد القرميد إلى سقفه، حتى كانت غرفة الليوان، تبدو من بعيد، مع الغرفة الغربية، كأنهما غرفة واحدة.
أما سقف الغرفة الشرقية، فقد كان من الباطون. حمل على عوارض خشبية جميلة. كان أهلي يقولون: إن جدي، أراد أجود أنوع العوارض الخشبية. وصفت له: إنها من الخشب البحري الثمين.
كان “الليوان”، هو مدخل البيت. تزينه قنطرة من الحجر المعشق بالأبيض والأسود. كانت جدران الغرفة الشرقية من الحجر الأسود. وهي مربعة مثل نموذج “الكعبة”، تيمنا بها. لأنها تحفظ الأسرار كلها التي تسمعها في الليل وفي النهار، وحتى في أوقات السحر.
وأما الغرفة الغربية، فكانت جدرانها من الحجر المعشق: الأسود والأبيض. تطل على الطريق العام، من الشباكين الغربيين. أما الشباكان الشرقيان، فيطلان على أرض الدار.
كانت واجهة البيت تمتد إلى الدار الواسعة، لجهة الشمال. وهي تنقطع عن غرفة المونة، وعن غرفة المطبخ الواسع الكبير الملاصق لغرفة المونة. وكنا نصعد إلى سطح الغرفتين هاتين، بدرج حجري مكين وجميل. حيث كانت القرية كلها، من الساحة حتى النهر والطواحين والدروب والبساتين والبيوت والحقول، تقع تحت أنظارنا ونحن صغار، نراجع الدروس .
كان “الوني”، يتحوط البيت من الجهة الشرقية، ويقطعه عن الجبل. وكانت مزاريب الجبل ومزراب سطح البيت تصب كلها في “الوني” أثناء موسم الأمطار في فصل الشتاء.
كان “الوني” مهرب الأولاد إلى الخارج أيضا، حين تكون أبواب الدار كلها مغلقة إلى الداخل في وجههم.
كانت الغرفة الغربية هي “الصالة” لإستقبال الضيوف. فلا يفتح بابها، إلا إذا أمنا ضيف.
أما الدار، فكانت على قسمين: “الدار الفوقاني”، أمام البيت. و”الدار التحتاني”. فوق حائط الحاكورة التحتانية. ويفصل بينهما جدار بسيط، بإرتفاع منحدر من متر، إلى مترين. وكانت أرض الدار الفوقا، كلها من الصخر. وهي تمتد أيضا، حتى تصل إلى أرض المطبخ، حيث الموقدة، وإلى غرفة “المونة” حيث تصفف مونة البيت. أما الدار التحتا، فكانت ترابية، وهي تفتح على المدخل الكبير، لجهة الجنوب. كانت عالية وعريضة، حتى يدخل إليها الجمل من “ثمها”، بحمولته كلها. ولذلك كان بابها الخشبي الكبير، ينفرج عنه باب صغير، حتى يدخل الحمار وهو يحمل جرار الماء. وأما مدخلها الشمالي، فهو عبارة عن بوابة صغيرة. تؤدي عبر ممشى مرصوف، إلى الحمام الخارجي. ثم يكمل الممشى المرصوف إلى الحاكورة الفوقا، وإلى الحاكورة التحتا، والزريب والدكان وبيت الحمام. وقد إتخذ سقف بيت الخلاء من القرميد الأحمر.
كان بيتي القديم، يتصل من فوق، بجلين عاليين طويلين، أعلى بقليل من مستوى سطح الغرفة الشرقية. وقد غرست فيهما أشجار اللوز والتين وعرائش العنب. وكانت أرضه منبت الزعتر والزوباع والخبيزة و”القرصعنة”.
أما المدخل الشمالي للبيت، فهو يطل على حاكورة واسعة. فيها بيت الحمام، وفيها زريبة وحوش، للدواجن، وللطيور. وخلف الحوش والزريبة، كانت دكان جدي، على الطريق العام.
إنقطع بيتي القديم، عن محيطه بالسكك والدروب. وكانت أشجار اللوز و التين، على جميع الحوافي المطلة على البيت. أما البقول والخضار الشتوية والصيفية، فكانت، ضيف التربة الخصبة، حيث نأخذ حاجاتنا منها. وكذلك الجيران الذين، لم تكن لهم حاكورة تسندهم، وتسند عيشهم، في جميع الفصول.
كان “الحمام الجوي”، حين ندعوه في الصباح إلى وجبته من القمح والذرة ، يغطي رقعة كبيرة من السماء، ويغطي معها أرض الدار الفوقا وأرض الدار التحتا. وربما كان يتتبع والدي في ذهابه إلى البستان القريب، طمعا به. وربما أيضا إلى الحقل البعيد. كان ينزل حوله، ومن قدامه ومن خلفه، أينما ينزل والدي في النهار، ولو على الطريق. فما أن يتوقف والدي، ولو منتصف الطريق العام، حتى ترى الحمام يحط حوله، تحية شكر وإمتنان، وطمع في وجبة جديدة.
وكانت بقرات البيت الثمان، تكفي العائلة من مختلف منتوجات الحليب: الجبنة واللبنة والشنكليش والزبدة والعيران. كان الفطور الصباحي كله على تنور البيت، أو على صاجه. وكنا حين نخرج إلى الحقول، نحمل معنا رغيف التنور من الذرة، أو رغيف الصاج من القمح، زوادة في الطريق. نتناوله إلى جانب الزعتر البري والبصل الأخضر، وحبات البندورة والخيار، وأوراق النعناع الطرية والزكية. وكن القمح والذرى من حقولنا.
كانت عرائش العنب، تمتد على حوائط الدار. وترتفع فوقها على أعمدة خشبية مثل المظلات. وكانت شجيرات الرمان، وشجيرات الجوز، وشجيرات الدفلى، تحجب الأنظار. وكانت مواسمها للشتاء، دبسا وحبا مجففا. وكان خيرها كثيرا من الحب والدبس.
بيتي القديم، بيت جدي، دربه تتصل بالنهر، حيث عرائش وأغراس “الورد الجوري” تنتشر على الحائط الطويل، من الطريق العام إلى النهر. وأيضا إلى عين الطاحونة، التي نأخذ منها، ماء الشرب.
كان ماء العين باردة في الصيف، دافئة في الشتاء. وكانت الصبايا، يحملنا على رؤوسهن جرار الماء من مزراب عين الطاحونة، إلى البيت. وأما الحمار فكان يحمل الماء على ظهره، بجراره الأربعة من مكان مخصص، إسمه: “مملى النهر”.
كانت الغنمات والنعاج والعنزات والبقرات الجميلات، يقودها الحمار إلى الحقول. على ظهره طفل صغير، يلهو. يغني. ثم يعود في المساء ظافرا: شبعا وريا.
كان الجمل بركة بيتي القديم. يحمل من الحقول البعيدة، خيراتها إلى الدار. يخرج إلى القرى القريبة، إلى المدينة. يقطع الليل ويصل الفجر بالغروب. ويرتاح من تعبه في زاوية مخصصة له مبركا أمنا، من الدار، تحت شجرة الكينا. وحين ينزل إلى الحاكورة، كان يرتاح تحت شجرة الحور.
بيتي جدي، كان منقطعا مثل كل بيوت القرية عن محيطه، بالحوائط والجدران العالية، وبالأسيجة من شجر الرمان والخوخ والبندق والإجاص البري. وكانت الطيور المهاجرة تعبر فوقه، بالترانيم والزقزقات. وكانت الطيور المقيمة لا تستوحش النزول إليه، لا في الصيف ولا في الشتاء.
بيتي القديم، مغلق اليوم منذ زمان بعيد. هجره ناسه وراء المدينة. وراء البحر. وراء رغيف يشتهي الخبز. وراء أطفال يشتهون الحكايات. أذكر كيف كنت أنا وأخي الصغير، نقف على الشباك الغربي، نرى نزول أول بوسطة، أول سيارة إلى قريتي. نعد الخيل والجمال والحمير والأبقار، وهي تذهب إلى الحقول أو تعود منها قبل الغروب.
وكنت وأخي الصغير، نشهد من الشباك الشمالي كيف نزل ثوار العام 1958، من عشائر الجبل الشرقي وإحتلوا المخفر في وسط القرية. تماما، كما كنا نرى من الشبابيك الشرقية والغربية، في العام1973، إحتلال المخفر، من قبل الفدائيين، وكيف أجلوا عناصره عنه في البساتين. تماما، كما شهدنا على إحتلال المخفر، في العام 1975.
بيتي القديم، كان بيت جدي، بناه في زمن الحروب والثورات في العام1926 حتى يكون ملجأه. ثم هجرته في حروب جديدة. خرجت منه إلى المدينة في زمن الحرب. ما عدت للسكن فيه، منذ كانون الأول-1977، أخرجتني حرب السنتين قسرا منه، لأنني كنت لا أرضى بتهجير الناس من بيوتهم، للآخرين. كلما تذكرته، أتذكر ساعة وداعي له قبل الفجر، في أول سيارة إلى المدينة، حتى أحتمي بأهلها وأسواقها، من شر الحروب. وأردد مع الشاعر أبي تمام، في قلبي، ولا أزال حتى اليوم، بالرغم من كل الأعوام الخمسين، التي باعدتني عنه:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى/
وحنينه أبدا لأول منزل.
تحيه إلك من شدرا، مقال رائع دكتور.قصي خليتنا نشم ريحة الضيعه بكل حرف كتبته يعطيك ألف عافيه و بنتمنالك الصحه الدائمه يا رب