نشرت جريدة ” النهار ” في بيروت قراءة نقدية للكاتب يوسف طراد حول كتاب ” مطارحات في أروقة المعرفة ” للمؤلف د. مصطفى الحلوة الصادر حديثا عن منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة ..وجاء في القراءة:
ممّا لا شكّ فيه، أنّ كلّ مطالعة في كتاب ” مطارحات في أروقة المعرفة ” للدكتور مصطفى الحلوة الصادر ضمن منشورات منتدى “شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة الثقافيّ”، لا تفيه حقّه، بسبب مساحته الواسعة والتي ضمّت المعرفة الفائضة. فقد اِمتدّت مقالاته الحلوة على مدى 700 صفحة من الحجم الكبير. إذا كان النبيّ يعقوب قد صارع طيف الربّ في المنام وغالبَ الله والناس وغَلِبَ، وقال له الطيف: “لا يُدعى اِسمُكَ يعقوبُ بعد الآنَ بل إسرائيلَ، لأنّكَ غالَبْتَ الله والنّاسَ وغَلِبْتَ” (تك 32: 29)، فمصطفى الحلوة طارح طيف العقول في كتبِ كُتِبَت بفضل موهبة من لدن الله، أمّا الغلبة في هذا المضمار فنسبيّة، تتعلّق بالقارئ.
وبما أنّ الكتاب قد صدر حديثًا، فالمستقبل سيحسم أمر الغلبة تلك. لكنّ الواضح من هذه المطارحات، أنّ شمس المعرفة أشرقت على الصّفحات من دون أن يعرج القلم. وقد رأى الحلوة الموهبة التي أعطاها الربّ للكتّاب، فكان كتابه الوسيع على غرار أرض “فنوئيل”، حيث اِستفاق النبيّ يعقوب من منامه، حين أشرقت الشمس عليه بعد مطارحته طيف الإله ليلًا.
“وسمّى يعقوب ذلِكَ المَوضِع “فَنوئيلَ” وقال: “لأنِّي رأيتُ اللهَ وجهًا إلى وجهٍ ونجَوت بحياتي”، وأشرقت له الشمس وهوَ يعبرُ (فنوئيلَ) عارجًا من وِرْكِهِ.” (تك 32: 31/32).
ونظرًا لوفرة المقالات، وإدراجها في أبواب أدبيّة وفلسفيّة عديدة، سنعرض مقتطفات منها، علَّ مطارحاتنا المتواضعة، تلقي الضوء على هذا الكتاب المرجع الذي ألقى بدوره الضوء على نتاجٍ أدبيّ وافر، لمفكّرين ومترجمين يستحقّون الإضاءة على نتاجهم.
الروحيّة التي كتب بها الفيزيائيّان الفرنسيان: “إغور، وكريشيكا بوغدانوف” كتابهما “Le visage de Dieu” الذي قدّم له العالم الفيزيائيّ “روبرت ويلسون” الحائز على جائزة نوبل للفيزياء عام 1978 لاكتشافه إشعاع الخلفية الميكروني، هذه الروحيّة لاحظها مصطفى الحلوة في شعر غسّان علم الدين ضمن ديوانه: ” شمس مختبئة في صدري- المدن” حين قال عنه في الصفحة 25: “من موقع فلسفيّ/ أنطولوجيّ يصدر شاعرنا، فيتساءل عن الوجود اللامتناهي، الذي حيّر عقول الفلاسفة والعلماء على حدٍّ سواء، ولم يحظوا بإجابات حاسمة، ولينتهي إلى الإيمان بمبدع الكون..
وكأننا بشاعرنا يرفض النظرية التي تذهب إلى أن هذا “الكوسموس” تشكّل من ذرةٍ تفجّرت وراحت في تفجرها إلى ما لا نهاية، وحيث راجت نظرية الانفجار الكبير”. فالمقاربة في كتاب الأخوين بوغدانوف التي تقول بأن كل شيئ في الكون هو من صنع الله، بدءاً بالانفجار الكبير (Big Bang)، إلى عدد بتلات الأقحوان ونظام توزيعها، تتلاقى مع إيمان علم الدين، حتّى ولو كان قد حدث هذا الانفجار وأنكره الأخير حسب ظنّ الدكتور حلوة، لكنّ كتاب “وجه الله” وديوان علم الدين يلتقيان على الإيمان بالله وخلقه الكون والأزمنة.
حديث الورقة والقلم، كان دعوة للشاعرة مارلين سعادة، فقد دعاها لتختال وتمرح وتأخذ ما حلمته من روحٍ وفرحٍ، حين قالت في الصفحة 37 من ديوانها: “أبعد من حدود الوجود”: “أتعلم كيف تولد الأوراق البيض؟/ تولد من حلم قلم/ يتوق ليهدر حبره على أوراقها./ من جنون عاشقٍ/ يهوى بياض جسدِها ليلوّنه على طريقته/ ليُلبسها الثوب الذي يريد،/ لتكون مرآته وصورته.” لكنّ رياض عوض، هرب من الرعب والقلق، إلى قلمٍ وورقة، حين قال عنه الكاتب ضمن مقالته عن ديوانه “كلمات مع مفعول رجعيّ” في الصفحة 39 من الكتاب: “هكذا، والحالُ هذه، في جبهِ القلقِ سميرِهِ، والرعب الذي يمشي أميرًا في دورته الدموية، والخوف الذي يسكنه، ليس له إلا قلمٌ وورقة، يفزع إليهما ليدفع بهما ما يؤرقه…” ربّما أنّه بمفهوم مصطفى الحلوة، يجتمع الفرح والقلق، ويندمج مع الحبر على الورق، ليولد الإبداع.
التطابق في الخيال كبير جدًا بين فكر الروائية هدى بركات وفكر مصطفى الحلوة ضمن تعليله لجرح الماء في ديوان “إذا انجرح الماء” لعادل حيدر حيث قال في الصّفحة 68 من الكتاب: “بيد أن للحب، في زمن انجراح الماء، وجهًا آخر، يُسفر عن رؤيا متفرِّدة، يُدخلنا الشاعر عبرها إلى عالم تحفُّ به الأسرار!”، فالسرّ الذي حمله بطل رواية “حارث المياه” لهدى بركات في أيامه الأخيرة، بقي سؤالًا من دون جواب، ولم يتعب البحر من ركضه بلهفة على الرمل العاري، حيث صافحته موجة هاربة من أسر عاصفة هوجاء، شبيهة بالعاصفة التي مرّت بها بيروت خلال الحرب الأهلية، ووصفت بركات وحوشها بإسهاب. فكيف يلتقي الخيال الروائيّ مع القريحة الشعريّة؟ يتّضح هذا الأمر عند قراءة مطارحات الحلوة.
وإذا كان الدكتور ميشال الشمّاعي، قد اعتمد المسافة المسبحيّة وحدة قياس، للدروب والمسافات في رواية “كفرشليم”، حيث تُقاس المسافة بعدد المسابح التي تُتلى أثناء المسير، فقد أوضح مصطفى الحلوة، أنّ دروب أمل صانع مليئة بالنصوص المنتمية إلى قصيدة النثر، في ديوانها “دروب”. فقد ورد في الصّفحة 124 من الكتاب على لسان المؤّلف: “… وما بين هذه الدروب تدسُّ أمل ما يقارب من ثلاثين نصًّا، تنتمي إلى قصيدة النثر”. فالصلاة والشعر يؤدِّيان إلى النتيجة المرجوة من الربّ. أوَليس الشعر صلاة تأمليّة إذا كان نتيجة عصارة القلوب الصّافية!
ويقول الحلوة، في الصفحة 137، ضمن مطارحته لديوان “شامات الحروف” لأسعد المكاري: “ولم يكن أسعد المكاري ليكتفي بهذا الإهداء، ممجدًا إهدن، بل أفرد لها أربع قصائد، أدرجها في ديوانه، وراء بعضها بعضًا، وليؤكد، في رابعتها “إهدن خليلة الروح”، على جدل العلاقة بين شعره وهذه البلدة الرائعة”. نعم وألف نعم ما من شاعرٍ يزور عروسة المصايف إلّا ويرى “الغيم يقبّل السماء” كما قالت الشاعرة ميشلين مبارك في ديوانها “صدى الروح”، حاملًا أشواق الفضاء للقمم التي تلاقي السحر الهابط من السماء. فهناك في ذلك المكان الساحر، هو السحر وحده الذي يكتب القصائد خربشات على صفحات ثلج الجبال التي لا تنام.
حين يتقاطع الوصف إبداعًا بين الأدباء، تولد القصائد الجميلة من الروح، فقد أبدع الحلوة ضمن مطارحته ديوان “للعصافير أجنحة… ولي أهدابك” لمحمود عثمان، حيث قال في الصفحة 145 من الكتاب: “…ومسك ختام النهدين، إذْ أرادهما الشاعر مُشرئبّين ناطقين غزلًا، على إيقاع رشفِ فمها المملوء شهدًا وذلك في قصيدة رائعة “كما نجمة” “. فكم يشبه قوله إبداع الأديب الدكتور ميخائيل مسعود، عند وصفه قاطفة العنب في كتاب “أيّام ريفيّة”، حين سال حبره سكرًا من منظر صدْرِ الصبيّة المغناج، فقد قال في الصفحة 144 من كتابه: “… أتعبتني يا صدرها…/ يا غربة العروة اشتاقت إلى الزرّ…/ يا غنجة الغزل العذريِّ/ يندلق في أخضر دُفعَ بنفجِ نافرين…/ فلم أعد أدري…/ هل السُّكرُ من العنب؟…/ أم أن السُّكر من السُّكر؟”.
وكان لأدب السجون مساحة وافية في هذه المطارحات، فقد ذكر الحلوة في الصفحة 160 عند وضعه مطالعة بكتاب “وطني دار السلام” لظريفة أحمد دياب: “ولقد كان لأديبتنا ظريفة أن تنمَّ، في هذا الموقف، عن نزعة وطنية، لم يُخفِّف السجن من غلوائها، ممّا جعلها مستعدةً لافتداء وطنها بدمها وروحها، وهما أغلى ما يملك الإنسان”. إن هذا المقال، مع مقاله بكتاب “ليالي القاووش”، للمرحوم عبدالله شحاده شاعر الكورة الخضراء والذي هو عبارة عن مداخلة، ألقيت في حفل إطلاق “المجموعة الكاملة” لشاعر الكورة الخضراء، ضمن فعاليات معرض الكتاب السنوي السادس والأربعين، للرابطة الثقافية في طرابلس، والواردة في الصفحة 231 من هذا الكتاب، هما نموذجان عن المقالات الراقية التي تعرض واقع السجناء والسجون بأمانة. يحضرنا هنا نصٌ للكاتب شربل شربل، ورد في كتابه “في مثل هذا اليوم” والذي تكلّم فيه على اليوم العالمي للكتّاب الذين يكتبون من السجون، ومواضيع أخرى حسب ورود الأيّام العالميّة لكلّ حدث، وكان قد ذكر فيه معاناة أو إعدام بعض السجناء الأسطوريّين مثل إعدام الكاتب النيجيريّ “Ken sarowina”وسجن أسد الأشقر وإنعام رعد، الّلذين ربّما شاركا شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافيّ سجنه، بعد الانقلاب العسكريّ الذي نفّذه الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ في نهاية العام 1961، وكانت كتابتهما تُنشر في ملحق “النهار”، باِسمين مستعارين، هما: سبع بولس حميدان، وقيس الجردي.
يجدر القول في هذا الإطار، أنّ مصطفى الحلوة وشربل شربل وغيرهما من الكتّاب الشّجعان، لم يتغاضوا عن الإضاءة على حرّيّة إبداء الرأي التي لم تكن موفورة في أزمنة معيّنة، وربّما في زمننا هذا، وكانوا وما يزالوا شموعًا مضيئة، تضيئ على أدب السّجناء، الطامحين إلى حريّة الأوطان. ضمن الصفحة 552 من الكتاب، ومن مقال بعنوان “قراءة في مسارات الربيع العربي/ معوِّقات التغيير” يقول مصطفى الحلوة: “ولا ريب أن الإكباب على مقاربة الربيع العربي مهمّة يجب أن يتجشّمها رجالُ الفكر، من منظّرين سياسيين ومشتغلين بالعلوم الاجتماعية على اختلافها، إلى سائر المعنيين بقضايا المجتمعات والإنسان.”، ويضيف في ختام المقال: “ونختم مجددين القول إن المشهد، مشهد الربيع العربي ليس جميلًا ولا سلميًا دائمًا.”، يحضرنا هنا، موقف لإحدى شخصيات كتاب “قصص وأمكنة من أزمنة”، للكاتب مازن عبّود والتي تدعى سعيدة، فهي لم تكن مع الربيع العربيّ، هي العائدة من أستراليا، ولا تعلم أنّ طبخة الربيع العربيّ بحاجة إلى هذا الكمّ الهائل من حريق دواليب الكاوتشوك لتنضج. هنا لم يتساوَ بسطاء المجتمع مع رجالات الفكر، بل تخطّوهم في بعد النظرٍ، بالنسبة إلى الأحداث السائرة. ربمّا لأن الخريطة غير الظاهرة، المرسومة من قبل رؤساء الدول العظمى والتي تختصّ بالشرق الأوسط، خافية عن دول تتصارع من أجل أوهام.
من يقرأ كتاب “مطارحات في أروقة المعرفة”، بقسميه مراجعات نقديّة، وبحوث ودراسات، يبتعد أكثر في بحور المعاني، حتّى الرمق الأخير، فيكون كالباحث عن الدهشة سبيلًا لتصويب الحواسّ. ففي العناق مع الكتاب، تتنهّد الأوراق ويرتعش همس الحبر، وتتمرّد المعاني بغنجٍ، كتمرّد النهدين على الحرّاس عند عناق الحب ..