وجوه الحداثة
ينفذ الشعر اللغة في كليتها. وهو وحده يستطيع أن يحطم الصورة اللاهوتية. فالشاعر يعرف أن الكاهن قد سرقها منه، وأقام لها معبدا مخصصا لها. والشعر يعرف نقطة الضعف هذة. ويعرف كيف يستعيد ما سرق منه، في برهة مميزة، برهة الشعر الخارق للجاذبية. جاذبية اللاهوت.
ليس كل الشعراء قادرين، على إختراق “جاذبية اللاهوت”. فهم مثل ذكور النحل، يحلقون وراء الملكة في الأجواء العالية. واحد يصل إليها وسرعان ما يموت. أما الآخرون، فمصيرهم التساقط قبل الوصول. هذة هي المعادلة التي تحكم تمكن الشعر . هذة هي القاعدة لتمكين الشعر. هذة هي البراءة الشعرية، التي توجد عند بعض الشعراء في كل العصور، لأنهم في صراع دائم مع اللاهوت. يدقون جدران خزانه، ولا يفتح لهم، حتى تزلزل الحداثة هذة الجدران.
الشعراء، يعيشون حالات التوتر الذي يفصل بشكل دائم بين وظيفة الشيء ومعناه. فالوظيفة متحركة فيه. أما معناه فثابت. إنه ما يودع ضمن خزان آخر، غير خزان اللاهوت. خزان ما نسميه الرمزية. والصراع بين الرمزية الشعرية وبين اللاهوات، لا يصنع الحداثة، وإنما يصنع لها وجوها بنيانية. هي بكل تأكيد، من صنع غير الشعراء الحالمين.
الحداثة، تدفع كل يوم، ثمن اللقاء المباشر مع الزبائن. أما الشعر في صراعه مع السلطة ومع اللاهوت، فإنه يستعمل بعض الأساليب الإشهارية. وقد يجنح إلى تغيير أخلاق الحياة السياسة والدينية، ولكن لا يستطيع أن يغير أسلوب الحملات الإنتخابية وحده. لأن زبائن الحداثة، هم القوة الفاعلة في حملات التغيير.
من العبث القول، إن الإنسان المعاصر، يدرك العالم الذي يعيش فيه. ويحكم عليه. دون أن يأخذ في الحسبان هذا الكون الصوري المسكوك، بصور الإشهار المحتشدة حوله.
الشعر في صراع مع السلطة، يمثل جانبا أخلاقيا من هذ الحشد الصوري. أما الفاعلية، فلزبائن الحداثة، وهم الناس جميعا، الذين يستهلكونها كل يوم، وعلى كل الصعد. وفي كل الوجوه. ولهذا نجد لها وجوها أساسية، هي التي تصنعها، وتجعلها تدرج على قاطراتها، من حقل إلى حقل. ومن علم إلى علم. ومن فتح إلى فتح. حتى تجعل الناس كلهم زبائن لها، ولو ظلوا على سيادة الظلمة، في السياسة والكهنوت.
قراءة معنى الحداثة، وجوهها، لا تعني تعلم الكمال في التكلم عنها، وإنما تعني تعلم ما الذي يعنيه التكلم في الحداثة بطريقة لا تعرف الكمال. هذا هو شأننا في التكلم عن الحداثة هاهنا. لأننا ندرك مسبقا صعوبة تحديد وجوهها. لأننا بالفعل نعجز عن تحديد وجوهها غدا، في ظل اليوم. في ظل الصراع الوجودي معها. والذي يحتمل مثل هذة “الجدالية” القائمة حولها، في جميع المجتمعات القديمة والمعاصرة.
هل ينبغي لنا أن نصف السبيل التي قطعتها الحداثة في الحقل الطبي، منذ خيمة الصحابية رفيدة لتمريض الجرحى، حتى غرفة العمليات اليوم في العيادات المستحدثة لجرحى المعارك في الحروب. هل يمكن أن نتحدث عن السبيل التي قطعتها الحداثة في الحقل العسكري، منذ “معركة اليرموك”، حتى إحتلال بلاد العراقين، وبلاد أفغانستان وبلاد فلسطين و غزة ولبنان والقدس. هل يمكن أن نتحدث عن وجوه الحداثة، منذ أول محاولة للطيران، قام بها عباس بن فرناس، حتى آخر تجربة للطيران حول العالم، بالطاقة الشمسية. وحتى بلوغ الفضاوات كلها وإختراقها، والنزول على القمار والكواكب لتأهيلها والتنزه عليها وتسيير رحلات سياحية إليها.
في آخر الأخبار عن الفتوح التي يحققها العلم، في الفضاء، أن وكالة ناسا أذاعت أنباء جديدة، أخرجتها إلى العلن لأول مرة، عن وجود كواكب أخرى بحجم الأرض. وربما كانت مسكونة مثل الأرض. وهي تتحدث عن قرب الوصول إليها وإستطلاعها، ومعرفة ما إذا كانت قابلة للتواصل معها. ولا تزال التجارب العلمية تشق طريقها إلى ذلك، لتحدد مستقبل الإنسان على الأرض. فهل هذا يعد من وجوه الحداثة، أم لا نزال نعتبر الحداثة، وجها من وجوه العدالة. وجها من وجوه الأخلاق. وجها من وجوه الصراع مع الطغيان في السياسة وفي الكنهوت.
إن تقلب الحداثة بكافة وجوهها، على الأرض، إنما تجعل جميع الناس من زبائنها. فالحداثة زبائنية بكل شروط الزبائنية، وكل إنتاجها اليوم، إنما هو من صور إشهارها. ولا ينبغي تتبع الشعراء وحدهم. ولا الأدباء وحدهم. ولا اللغويين وحدهم. فهؤلاء جميعا ينظر إلى إتصالهم بالحداثة، كوجه من وجوه تأثير الحداثة على لغتهم وعلى خيالهم، وتجليات اللغة والخيال، في النصوص الحديثة بكل معنى الكلمة. والإحتفاظ بموقفهم الطهراني التاريخي، في صراعهم مع السلطة والكهنوت، في قعر المرآة، لأن لمرآة الحداثة قعر عظيم، يضم جميع النتاجات التي أخذت الحداثة بيد رجالها إلى التغيير والتطوير. إخترقت الحداثة نفسها، إلى ما بعد الحداثة.