اللغة الشجرية
أجمل ما في اللغة العربية، أنها لغة شجرية. لها فروع ولها غصون. لها طرود. لها براعم. لها أوراق لها زهر. ما أخطأ الأندلسيون حين إبتكروا الخط العربي المشجر. كان ذلك أهم ما منحته بيئة الأندلس للقلم العربي. وما أخطأ أهل العربية، حين وجدوا، أن الخط العربي المشجر هو أجمل الخطوط العربي. وجدوا فيه تطويرا، للخط الكوفي، الذي زين العربية في العراق، بلاد الرافدين. وفي الحجاز ونجد، وفي مصر والمغرب العربي.
العربية حقا، مثل الشجرة، رأسها في السماء وجذرها في الأرض. ولذلك وجد فيها الوحي المقدس، خير لغة أخرجت للناس. فكان أهلها بذلك، خير أمة أخرجت للناس.
ما من لغة في العالم على الإطلاق، إستوحت معناها ومبناها من الشجرة، غير العربية. ما من لغة إستوحت سموها من الشجرة، غير العربية. طرود العربية أجمل الطرود. وأزهار العربية، أجمل الأزهار. ولهذا ربما، بشر العرب، بأن عربيتهم، لغة أهل الجنة في الجنان. ولنا أن نقول أيضا، بكل صدق، أن اللغة الشجرية التي عرفتها اليونانية القديمة والحديثة، إنما إستوحيت من من العربية المشجرة. وأن اللغة الشجرية التي عرفتها اللغة اللاتينية المشجرة ، واللغات الأوروبية المحدثة عنها، إنما أتت متأثرة باللغة العربية المشجرة. فما بالكم باللغة الفارسية المشجرة. واللغة العثمانية المشجرة. واللغة الفهلوية المشجرة. فما بالكم بالتشجر اللغوي، الذي شاع في لغات أهل الهند وأهل السند وأهل الصين واليابان. فهذا التشجير اللغوي الذي عرفوه، إنما مرده كله، إلى فن التشجير في اللغة العربية. إلى فن التشجير في العلوم العربية.
في أواسط القرن الرابع، وفي بلاط سيف الدولة بحلب، إنبرى اللغوي النحرير، عبد الواحد بن علي الحلبي، لتحرير كتابه الأثير: “شجر الدر”. صنع من العربية شجرة. صنع من الجذر اللفظي لكل مفردة لغوية شجرة. صنع لكل معنى من معاني العربية شجرة. وأسمى كتابه شجر الدر، لأنه يحوي حقا درر اللغة. جعل للعربية شجرة نسب، يفتخر بها، بين سائر أشجار الأنساب التي برع بها رجال الأنساب عند العرب. والذين عرفوا لدى المؤرخين منذ القدم، ب”طبقة النسابة العرب”. الذين صنعوا شجرة الأنساب للقبائل. وشجرة الأنساب للخيل. وشجرة الإنساب للدمى. وتبعهم في ذلك علماء النبات والعشابون، فصنعوا شجرة أنساب النباتات. وشجرة أنساب الطير وشجرة أنساب الحيوان. وشجرة أنساب الجواهر. وشجرة أنساب الأعشاب في البحار وفي المحيطات وفي الأنهر العظيمة، على حد سواء.
ألهمت اللغة الشجرية، جميع العلماء وجميع الكتاب وجميع الباحثين وجميع المؤلفين، وجميع الشعراء والأدباء واللغويين. جعلتهم يستنطقون الشجرة وهم يفكرون، في جميع الإختصاصات التي إشتغلوا فيها. فكانت الأفكار المشجرة، خير سبيل لربط الأفكار ببعضها، بنسب قوي. وكان الخيال المشجر، أعظم السبل، لربط الأخيلة ببعضها. وكانت الصناعات المشجرة، هي إنعكاس حقيقي، للعلوم والأفكار والإبداعات والتصورات والإلهامات الشجرية.
أعظم إكتشاف تحولي إذن، يحمل طابع التحول العقلي، عرف عند القدماء العرب، هو إكتشاف شجرة اللغة. كان ذلك من الفتوح العقلية التي لم يضارعهم فيها، أحد. بحيث صار نقطة تحول في تاريخ الرؤية البصرية، كما في الرؤيا العقلية على حد سواء.
اللغة الشجرية، كانت فاتحة العلوم كلها. وجدوا اللفظة تستقيم في معانيها، على مثال جسم الإنسان في إستقامته. وعلى مثال فكر الإنسان في إستقامته. صار علم “السيمياء” موازيا حقيقيا لعلم “السيمتري” في كل شيء، في المنظور البصري، والمنظور العقلي على حد سواء. وصار الشعراء ينظمون القصيدة المشجرة. وصار الخطباء يدبجون الخطبة المشجرة وصار الفنانون والتشكيليون والرسامون، والمهندسون والمعماريون، يضعون، ويرسمون وينحتون ويقدمون اللوحات والجداريات المشجرة.
“اللغة الشجرية”، ملهمة الغابة، وملهمة النبع. ملهمة الحقول وملهمة التلال والجبال والوديان. ملهمة كل مقيم وكل سارح. ملهمة كل سابح في سماء. أو كل سابح في ماء. أو على شاشة البصر والعقل. ملهمة العربي، وغير العربي باللسان المشجر وبالمعنى المشجر وبالفكر المشجر. و بالخيال المشجر. صارت الحياة الشجرية، هي الخيال الأولي، لكل علم ولكل معرفة ولكل صنعة. وأما اللغة الشجرية، فقد صارت هي القصيدة وهي بالتالي كل فن وكل صنعة فنية.
الحياة الشجرية ، بهذا المعنى، هي الكتاب المفتوح للعالم كله، ينظر فيه الناس، فيأخذون منه أول درس. وينطلقون للبحث عن نسب البذور. وعن نسب الغابة. وعن نسب النبات والحيوان والجماد. وعن نسب الشجر. ينطلقون للبحث عن اللغة الشجرية، لأنها، هي التي كانت لديهم في البدء. هي التي كانت لهم في الأصل.