أنامل الفجر
كل العالم، على موعد مع الحناء، يخضب أنامله الصغيرة. أنامله الملساء الطرية، هذا العام، مساء الجمعة الواقع فيه31/12/2021. يدخل حجرة النوم، يبسط يده المقبوضة للماشطة. تطبعها على خدها،قشرة من جوزة النبع. تردد في سرها: الحناء واهب الأنامل، لون الفجر.
تنكمش الفصول إلى جفنة الحناء. إلى قصعة الحناء. وماء الورد وماء الزهر وعود الريحان. تصنع عجينة العروس القادمة. تخضب أناملها الطرية، بلون أنامل الفجر.
ليس الأمر عاديا، ليلة رأس السنة. هناك عروس قادمة، خلف الباب المحترق بآخر ورقة سقطت. بآخر ورقة محترقة. ظل منها ثقبها، يدل على بزوغ فجر جديد، قادم من بعيد. قادم من وراء الغابة. قادم من وراء البحر. نام الأطفال يحلمون به. نامت الفتيات على حلم . نامت عجوز البيت على الشباك، تريد أن تأخذ نفسا جديدا من أثير الغابة التي أنارها الفجر، بلون الأنامل النحيلة. بلون الأنامل الطرية. بلون خد عروس، أخذت أناملها من جفنة الحناء. حناء الأنامل.
ما هذة الأغمار من السنابل التي علقت في السقف. مثل كف صغيرة ، بألف من الأنامل. مثل الثريات، تدلت: كل سنبلة بلون. رموشها من صنع الأكف الصغيرة الطرية، كرقة الورد. إنبوباتها الرفيعة، مثل أرجل صغار العصافير في الأعشاش، تبشر الصيف بوعد النهوض مع الفجر. تحنت بلونه. تحنت بلون أنامله. تمسح الدمعة عن خد الفتاة الصغيرة: سجينة عام مضى في الظلام. حيث كانت الذئاب يعوي جوعها نجمة الليل. يعوي جوعها، عتمة الليل. حيث كانت الذئاب تحيل جميع شوارع المدينة إلى وديان. تحيل سقف البيت، إلى سماء مدينة غرقى، في الظلمة، في العتمة، في الليل.
أنامل الفجر أضاءت السماء. أضاءت شجر الدلب، أضاءت السنديانة العتيقة على باب فهد. على باب كهفه، يخرج من صباح اليوم التالي. يربط في خصره زوادة بلدية، يفوح منها الزعتر البلدي، وأرغفة طرية. وورق النعناع و خصيلات المردكوش وبصلة حبلى، وبضع وريقات من الحبق. يسوقه “حمار الرعية”، إلى المرج. وقربته تبلل زاده. تنضح عليه أنفاسها، في الطريق إلى النهر.
عصا سحرية تنكبها. يهول بها على أفعى الطريق وغيلانه، بين المروج والهضبات الحانيات تحت سقوف السماء البعيدة. يخرج فهد، معلم القرية، بالأبقار من قريتي، تنتطح في الطريق، قبل أن تسد جوعها، بقضمة نافلة من النفل، تحت وهدتها.
أنامل الفجر القادم إلى مدينة الأوغاد. إلى لياليهم الراقصة، على الجثامين العائدة من فم البحر. أنامل الفجر المخضبة بحناء الغسق. غابت وجوه الفتية في دغش الليل. طافت على ظهر موجة راقصتها، حتى طلوع الفجر. طفت فوق موجتين من زنبق وعنبر وورد. عادت إلى الرمل، وفي الثوبين نثار معركة مع البحر. نثار من حطام مركب، وبعض من بقع دم وزيت.
كان جلاوزة المدينة، يسهرون على الصناديق، يرهنون الوقت في علبة الإنتخابات. يخلطون بين الأسماء والأصوات، تحت قرقعة السلاح، في الغرفة المجاورة. تحت شقشقة الفجر.
أنامل الأطفال المخضبة بلون الشفق، تشقق الظلمة. تخرج من طاقاتها. عام كئيب مضى. يهرب من غرفة نومهم، بالبيجما. بسرواله الممزق من كثرة العراك، على عبوة حليب، على رغيف. على ترتينة المدرسة. لوح الأطفال بأناملهم المخضبة بالحناء ليلة رأس السنة، أضاؤوا الفجر. صحصح. أخذ الفجر أناملهم. خضب بها غيمة عبرت من الشباك. حدثتهم عن عيون تحدق في الأفق. تصنع الشفق. تحدرت منها دمعة بلون حناء الصغار قبل النوم ربما. بعد النوم، على سرير القلق.
الحناء واهبة الأنامل لون الفجر، العام الذي يولد من الغسق. عشش حسونه في طيونة. عشش نورسه على مرفأ الغروب نامت في قبضتين صغيرتين، راعفتين، راعشتين. مضمومتين على خد وردة حمراء. على ورق الورد.
غسلت مخدتها بدمعتها، عروس السنة المقبلة. رتقت منديلها. مزقته الرياح في هبوبها، فصلا بعد فصل. نسجت من خيطانه تلويحة ل”تلة الغياب”. خرجوا بلا وداع. خرجت في وداعهم نسيمات السحر. نسيمات الفجر. رمت عليهم أنفاسها. آهاتها. عبأتها في شهقة الأباء والأحزان والعيون الشاردة، خلف غمامة، طاردتها بومة خرقاء خائفة. طاردها غراب أسود. ذكروا إسمه. قالوا: غراب البين.
عروس مضرجة، تخرج الليلة من عنب الينابيع. من ورق الجوز. من ورق التين. من عب دلبة على الجسر. من ساحة قتيلة. من مدينة خرجت من بين العصي التي هوت. تكسرت في ساحاتها العصي عند الغسق. خرجت من مذبح السياسة. من الرقم السري للحسابات الجارية. من مناقير الصيصان تحت رمانة، نشفت عروقها وحباتها حتى من الديدان. نشفت من طعم رمانة يابسة. من ساحة مهزومة، طيلة عمرها، إسمها “ساحة النصر”.
عروس مضرجة هاتيك السنون الماضية كلها. وقعت من السنة الدانفة عجوز اليوم كسرت سنها. وقعت لها ترفا. وما علمت بها. وقعت لها، في وقعة الرئاسة مع الرئاسة مع الرئاسة. صارت سنة قتيلة، بلا رئاسة. بلا حكومة. بلا مجلس للشعب، يقام كل يوم لها جنازها. وما عرفت بعد، مراسيم الجنازة.
سنة مخضبة بأسرها. بأسراها بموتها. بموتاها. بناسها: يهربون من الموت إلى الموت: غرقى بحار وجوع وجور وظلم، وموت يشتهي الموتى. سنة مخضبة بأعين الأطفال والنساء والشيوخ. سنة مخضبة بدم عجوز هالكة. سنة مخضبة بالدماء، التي سالت في ساحاتها. تبكي على فجر تأخر في الوصول. تنام على منام الماء: “الحناء واهبة الأنامل لون الفجر”. ترسم في السحر بعض أنامل الأطفال: تصنع بالحناء أنامل الفجر.