الساعة المتعبة
ليس في العالم ساعة متعبة، ساعة مثقلة بالهموم، مثقلة بالقضايا والمسائل والمشاكل، أكثر من ساعة العبد في البلد، في ساحة النجمة، في بيروت. تحتها يسكن التاريخ كله: تاريخ بيروت الفينيقي و تاريخ بيروت اليوناني والروماني والبيزنطي والمملوكي والعثماني. وتاريخ بيروت السوري والمصري والحجازي والعربي. وفوق هذا التاريخ العريض كله، يسكن التاريخ الحديث، منذ تأسيس الكيان حتى الآن.
ساعة النجمة، قبالة البرلمان اللبناني، التي أهداها المغترب اللبناني، ميشال العبد، إلى بيروت في العام1933، لم تكن في يوم من الأيام، أكثر تعبا، أكثر ألما، أكثر تألما، مما هي عليه الآن، آخر هذا العام.
حروب وحروب، مرت عليها. ما حنت منها الظهر. ولا كثرت شوكتها. ولا أفقدتها وهجها وهيبتها. كان الناس يمرون بها طوال تلك السنين، فيقفون أمامها، يأخذون منها الأمل، وهم يسمعون دقات قلبها، كانوايضعون آذانهم على صدرها، على حجارة جدرانها، فيذهب عنهم الهم والغم، وتذهب عنهم الشدة. يذهب عنهم الخوف والبأس. ما وقف اللبنانيون عليها إلا وشعروا أن غمامة تنزاح عن قلوبهم. أن صخرة ترفع عن صدورهم. أن غشاوة تنزاح عن عيونهم. أنهم في برهتهم، أفضل ممن كانوا بالأمس. والأمس قبله.
كثيرة هي الساعات في وسط العواصم في العالم. كثيرة هي الساعات، في العاصمة بيروت. كثيرة هي الساعات في لبنان. غير أن “الساعة المتعبة” وحدها اليوم، من بين هذة الساعات جميعا، هي “ساعة العبد” في البلد. حيث إجتماع اللبنانيين كلهم، من بيروت وطرابلس حلبا وصيدا وبعلبك وزحلة وصور، في ساحة النجمة، قبالة البرلمان. برلمان كل لبنان.
ساعة العبد، الساعة المتعبة بأثقالها، لم تعد تحصي همومها. لا من السياسة ولا من الرئاسة ولا من الشغب السياسي، على شغب الناس والثورة. لم تعد تحصي دموعها من كثرة المتاعب التي حملتها لها هذة السنة الجديدة. لم يعد الناس يرون في عينيها إلا القلق، وكأنها في سنة وداعية، لا في سنة مقبلة.
غاب عنها البرلمانيون الكبار إلى غير رجعة فما عادوا قادرين العودة إليها: لا من أجداثهم. ولا من منافيهم. ولا من جلسات الأونيسكو المستحدثة. غاب عنها المشرعون، وما عادوا يدخلون في جدال تحت جدرانها. ما عادت تسمع وقع أقدامهم، على رصيفها. ما عاد الحمام يطير، عندما تزدحم المواكب حولها. غابت المواكب والخيول المطهمة، وصارت الفلوات للريح، تحمل إليها السموم، وتستنزف آخر دقاتها. وصار يطير إليها الحمام الزاجل، بين الرئاسات، يشكو دقاتها المحزنة.
لم تعد ساعة النجمة تزهو كعادتها، في آخر العام. صرنا نسمع رنات قلبها، من حجارتها الباكية: غابت المؤتمرات. وغابت الجلسات والنقاشات. غاب الرجال. صاروا جميعا إلى صفير البلبل. صار الصراخ ذئبهم إلى ساحة النجمة.
من جعل لبنان يختنق. داسوا عليه بحذائهم، صرخ في وجوههم: أريد أن أتنفس. يكاد باكيا: يلفظ أنفاسه الأخيرة، قبل نهاية العام. من جعل ناسه، تبكي عليه، قبل أن تبكي على نفسها. من جعل هذا البلد الصغير، هذا البلد الوديع، يحمل على ظهره، طوال دهره، “صخرة سيزيف”، حتى أثقله الدهر بأثقاله المتعبة.
الساعة المتعبة بأثقالها اليوم، إنما تشهد على أثقال مزمنة. ذهب الرجال الذين عمروا البلد في أول القرن، وما عادوا. ولا زالت ساعة العبد تنتظر. تنتظر أوبتهم.
ساعة مثقلة بالغياب. مثقلة بالهجرة. مثقلة بالرحيل. مثقلة بالترحيل. مثقلة بالهجر. مثقلة بالتخلي: رحل عنها الأطفال الصغار الذين كانوا يزينون ساحتها آخر العام، ويجعلونها مثل ساحات العالم تحت ساعاتها للفرح والبهجة والحبور. جلا عنها الكبار إلى أجداثهم: نأوا إلى أجداثهم، إلى منافيهم. نأوا إلى “دهلك”. حط الحمام. طار الحمام.
جثت ساعة العبد على ركبتيها أنهكها الإعياء. أنهكها الخداع الذي يلطم خديها مع الموج كل صباح. حل عليها التعب آخر العام، صارت الساعة المثقلة. صارت الساعة المتعبة بأحزانها.