حارس المرمى
“العربية” ملعب الأدباء والكتاب والشعراء. لا العرب وحدهم، بل والأدباء المستشرقين أيضا. هي ملعب أهلها، منذ أن كانوا لها، ومنذ أن كانت لهم. وكانت الأجيال تطوى عليها طيا، منذ العصر الجاهلي الأول، وحتى اليوم. ينزلون إلى ملاعبها. يجربون حظهم في اللعب بها وفي اللعب معها. وفي اللعب أمام شباكها. يظلون كذلك من الصباح حتى المساء. يظلون كذلك طوال ليلهم أيضا. لا يخلدون لراحتهم، ما لم يخلدونها في مقالة أو في قصة أو حديث أو إقصوصة. أو في جزئية من رواية، أو في موقف أدبي. أو قصيدة شعرية.
اللعب باللغة لا ينتهي. لا يتوقف. وكلما تقدم اللاعب بالسن، كلما كان طاعنا بالسن، كلما جددت اللغة شبابه، وجعلته أقوى. فما بالكم إذا ما كانت العربية هي اللغة. وما بالكم إذا ما كان للعربية شباك قوية، لم تستطع الرياح أن تهزها. لم تستطع الأعاصير أن تهزها. لم تستطع الحروب كلها، منذ أيام داحس والغبراء ، حتى غزو الكويت، حتى حرب الخليج، حتى حرب لبنان، أن تنال منها مقتلا.
ليس لأية لغة في العالم، لا في القديم ولا في الحديث، ملاعب أعظم من ملاعب العربية. تراها تنتشر على مستوى القارات الخمس. تغور في التاريخ، حتى لتجد “آدم” و”حواء” من أبطالها. يلعبون و يلعب معهم نسلهم في ملاعب العربية، فيحيلون اللعبة معها، إلى لعبة قداسوية . إلى لعبة مقدسة.
إحتاجت العربية في ملاعبها، إلى حارس مرمى. فتجند الشعر الجاهلي لذلك، ووقف أمام شباكها يرد الضربات الطائشة. غدا فارس ملاعبها كلها: في الأدب وفي الصحافة وفي اللغة. كانوا يلعبون القص، والشعر الجاهلي، حارس المرمى. كانوا يلعبون الخطابة. والشعر الجاهلي، حارس المرمى. كانوا يلعبون السيرة ويصففون قواعد اللغة، وينسجون الحكايات والروايات، ويكتبون التاريخ، ولا يجدون أمامهم إلا الشعر الجاهلي، حارس اللغة.
الشعر الجاهلي، حارس ملاعب العربية كلها بلا إستثناء. ولولاه لضاعت بين المتاهات. بين ملاعب اللغات الشقيقة لها. ترى الأدباء والشعراء وأهل اللغة، يعودون إلى العربية، لعجم مفردة. وللوقوف على البذور الصالحة للغرس وفحصها، بعد مضي قرون وقرون. تراهم يحكمون الشعر الجاهلي منذ ذلك التاريخ القديم، حتى اليوم، ما إذا كان قولهم على الفصاحة والبلاغة والأصالة. ما إذا كان قولهم، لا تشوبه شائبة.
ليس بين لغات العالم القديم والجديد، حارس مرمى لها في ملاعبها، مهما كانت صغيرة أم كبيرة. فهوميروس الشعر اليوناني، لا يشبه الشعر الجاهلي، حارس مرمى لليونانية. واللغة اللاتينية لا تشبه الشعر الجاهلي، حارسا لمرمى اللغات الأوروبية الحديثة. ولهذا تراها تهتز في ملاعبها، ولا حكم محكم لها. ولا حتى حارس مرمى. فليس للعربية شبيه لها بين اللغات، لأنه، ليس لغيرها حارس مرمى، في صفة الشعر الجاهلي.
الشعر الجاهلي، شعر الإحتجاج على لغة العصر الإسلامي. وعلى لغة العصر الأموي. وعلى لغة العصر العباسي بكل عمقه في التاريخ. وهو كذل شعر الإحتجاج على العصر الأندلسي، والعصر المملوكي وعصر النهضة، وحتى العصر الحديث.
ما هذة الصفة التي سمح بها الشعر الجاهلي لنفسه، أن يكون حكما، بل حارسا لكل ملاعب العربية، في كل العصور الأدبية، وفي كل بيئاتها على الإطلاق. ما هي الشروط التي حكمت الشعر الجاهلي، دون غير من سائر أنواع الشعر، حتى صار شعرا موثوقا في كل شيء، من النواحي الجمالية، ومن النواحي الفنية ومن النواحي اللغوية، ومن النواحي التاريخية والجغرافية، على حد سواء.
لا يزال الشعر الجاهلي، هو مرآة اللغة العربية. وهو مرآة الحياة الثقافية. وهو مرآة الحياة الإجتماعية. بإختصار شديد: الشعر الجاهلي، هو مرآة العصر الجاهلي، الذي ينزع عن صفة فريدة، هي الصدقية الفنية والصدقية المادية. والأدب العربي كله، في جميع العصور، كان خالطه الزيف، إلا في العصر الجاهلي. ولذلك كانو يحتجون به على لغة القرآن، وعلى شرح وتفسير غوامض الآيات، وغوامض الجمل، وغوامضالمفردات. وقد ظل الأدباء العرب على هذة السنة، طوال العصور الأدبية المتلاحقة، إلى العصر الحديث، وربما، إلى مابعده في عصور وعصور.
ليس في الأمر شيء من الأسطورة، حتى تكون للشعر الجاهلي، مثل هذة الهاله. وليس للشعر الجاهلي، شيء من القداسة، حتى تكون له مثل هذة المنزلة. فإذا ما طلبنا ذلك قد نجده في القرآن وفي الحديث القدسي. غير أن الشعر الجاهلي، كان يحكم لغة في لغة القرآن. وكان يحكم لغة في لغة الحديث. فنرى الشراح والمحدثون، يذهبون إلى الشعر الجاهلي، لتبين كل منغلق على الناس، في القرآن وفي الحديث القدسي. وفي الحديث النبوي على الإطلاق.
الشعري الجاهلي كان نتاج جدل الطبيعة والمجتمعات العربية بكل حرية. فما كان لأحد أن يتدخل في هذا الجدال الحر، حتى مخاضه الأخير، حتى ولادته الكاملة بهيئة طبيعية، قبل الإسلام بمئتي عام. وهو إلى ذلك، عاش حياته في هذين القرنين الأمجدين، بكل إنفتاح على جميع الأمم والشعوب. فما كان محاصرا. ولا كان مأسور. ولا كان ضعيفا ولا ركيكا، بل كان قصائد مقصدة، في أتم هيئاتها ولهذا صار الشعر الجاهلي نمطا فريدا من الشعر. موديلا مختلفا من الشعر. نموذجا جديدا، يسبق شعر الأمم المعاصرة له، بأشواط وأشواط. ولهذا كان يصلح للإحتذاء به في كل العصور التي أعقبته.
الشعر الجاهلي، وخصوصا منه القصائد والمعلقات، كان أعظم الشعر الذي أنتجته الأمم القديمة. أكسب أهله صفة لا توازيها صفة أخرى. قالوا عن العرب، كما نقل الجاحظ، أنهم “أمة شعر”، مثلما كان اليونان أمة فلسفة ومثلما كان الرومان أمة عمارة، ومثلما كان الفراعنة أمة إهرامات. ومثلما كان الفينيقيون أمة تجارة. ومثلما كان الإغريق والفرس، أمة حرب.
حين يستطيع الشعر الجاهلي، أن يكون مفخرة أمته، فأحرى به أن يكون “حارس المرمى”، في جميع ملاعبها الأدبية. وهذة الثقة نالها، بالمثابرة وبالتتابع، حتى إستطاع أن يسجل براءتها، في جميع الدواوين، من العصر الإسلامي، وربما إلى ما بعد بعد، العصر الحديث.