الأزمة الدائرية
كل عام تتجدد أزمة لبنان. الأزمة نفسها: بعناوين مختلفة. ولقضايا ومسائل مختلفة. وأما أبطال هذة الأزمة بكل شخوصها وأطرافها. وبكل عناصرها، فهم أنفسهم منذ أكثر من مئة عام. بل هم أنفسهم، منذ أكثر من مئتي عام.
أزمة سياسية دائرية، تضرب لبنان منذ نشوء الكيان. بل قبل نشوء الكيان بقرن من الزمان. حتى لكأن البلاد، إعتادت على الأزمة نفسها، تتجدد عاما بعد عام. أزمة على شكل فتنة، تسعى بين الطوائف. على شكل أفعى تسعى بين الطوائف. على شكل نار تسعى بين الطوائف. تدخل بيوت اللبنانيين. تتنقل بين طوائفهم. تفترش حياتهم. تنمو معهم. تعظم معهم. وتهمد معهم. ثم تتجدد فيما بينهم، جيلا وراء جيل.
أزمة سياسية صغيرة حقيرة، تنمو بينهم، تنمية مستدامة. تجعل الأهالي يقتتلون كل يوم تجعل حياتهم كلها كوابيس. تجعل حياتهم كلها حروب. ترى اللبنانيين، يتنقلون بين حرب وحرب، بغمضة عين. يسرقون النار، ويمشون بها. يحملونها إلى عوائلهم ويضرمونها. ويمضون حياتهم، يعيشون عليها. يتعيشون بها. يجعلونها من أسباب رزقهم وقوتهم، مثلما هي بالنسبة لهم قوتهم اليومي. وماؤهم وشرابهم، ومصدر لذتهم ومصدر نعيمهم. وباب تجاراتهم، مع سائر الشعوب.
أزمة لبنان السياسية، تسير مثل مركبة الأطفال في مدينة الملاهي، على سكة دائرية. تنطلق من نقطة. تتابع سيرها إلى سائر النقاط ثم تعود إلى النقطة المبتدا، ولا يسأل الناس عما بها. لا يسألون لماذا تتابع الأشواط، عاما بعد عام. لماذا لا تقف. لماذا لا تتوقف اللعبة. لماذا لا تنتهي اللعبة.
تمر الأزمة السياسية، على جميع الطوائف، لأخذ البركة الطائفية. لأخذ الوجه الطائفي. لأخذ الوجهة الطائفية. ينتظرها الشاحن الطائفي، على كل باب من أبواب الطوائف، فتمثل منه بصمته، وتسارع في الإنطلاق، إلى سائر أبواب الطوائف، بكل عزيمة، وبكل عناد، ولو أكلت نيرانها نصف أهل الطائفة.
دواليب الأزمة السياسية في لبنان، دائرية بإمتياز. تمر على المناطق كلها. تشحنها بوقدة نارية، في كل منطقة تمر بها. تأخذ وجها مناطقيا جديدا، ثم تتابع سيرها. حتى تزور كل المناطق. حتى لا تجعل منطقة تعتب عليها. الأزمة السياسية في لبنان، تجدد نفسها في كل المناطق، تلبس منها في كل مرة، ما تحتاجه، لإشعال حرب مناطقية.
الأزمة اللبنانية، ذات قناع عشائري. تلبسه متى شاءت. وتخلعه متى شاءت. ولا تستحي العشائر، بما تأتيه. صار لها مجالس. صار لها قواعد. دخلت بإعتراف المسؤوليين في السجلات الرسمية. صار لها إتحاد عنوانه “إتحاد العشائر اللبنانية”. تنتصر العشائر لنفسها، بحرب. وتنتقم العشائر لنفسها بحرب. وتدخل فيما بينها، بحروب مجيدة: حروب العشائر اللبنانية.
الأزمة السياسية في لبنان، تدور عجلاتها أيضا، على الأحزاب. تجعل من سككها، سككا طويلة. تجعل محطات الإستراحة بعيدة. تجعل محطة النزول والصعود بعيدة. تستجر وقودها لمسافات عظيمة، من الأحزاب الخارجية. من الدول والسفارات التي ترتبط بها بأواصر ومفاهيم وأساليب عقائدية. تأخذ من مالها وتضرب بسيفها، ولا تمل الحروب، لأنها تسير على سكك دائرية.
دواليب الأزمة السياسية تجدد نفسها بنفسها، على السكك الدائرية. قطارها لا يتوقف إلا في محطات، إعتاد التوقف عليها. فهو من نوع القطارات الذاتية التشغيل. بلا سائق ولا قائد. يدور على عجلات قديمة. يدور على عجلات تجدد نفسها بنفسها، حسب الطقوس العالمية. حسب الأجندات المحلية و الإقليمية. حسب الأجندات العالمية. عجلاتها منتوعة هي عجلات الأزمة اللبنانية. تدور على نفسها، بالعجلة الفئوية. وبالعجلة الطبقية. وبالعجلة التعددية. وبالعجلة الشمولية. وبالعجلة الطلابية وبالعجلة الشبابية.
أندية وجمعيات: كشفية ورياضيةوثقافية ودينية وحزبية، ينهض بها الفتيان والفتيات والنساء. ينهض بها الصبية الرضع، يتحركون على الواتسب، بهاتف محلي أو خارجي، فتعظم الدائرة. تتحرك الأزمة الدائرية. تتجدد بدم فتي من الشباب.
الأزمةالسياسيةالدائرية، ذات وجوه عديدة أخرى. مرة هي وطنية. تسير بعجلاتها، كلما دعت الحاجة لها. ومرة هي قومية. تدور بعجلاتها، مادامت تجد تمويلا نافعا لها. ومرة هي تضامنية. تنطلق من زقاق، من حي، من شارع، من مدينة، من أبواب طائفة. من أبواب حزبية، ولا تتوقف، حتى بعد توقفها، في منابتها الأصلية.
الأزمة اللبنانية، أزمة زعامات وقيادات وطموحات “نرسيسية” بإمتياز. ينظرون في مائها، فتتلألأ وجوههم. يصابون فجأة ب”داء النجومية”. يشعلون الأزمات، أزمة وراء أزمة. يختبئون وراء الأكمات. يسيرون الحشد بعد الحشد، لطاقة وبطاقة إنتخابية. ولا يتوقفون عن الدوران. لا بوصولهم ولا بوصول أولادهم، ولا بوصول أحفادهم، لأنهم من “عائلات سياسية”.
أزمة لبنان، أزمة السياسة الدائرية فيه، منذ أول القرن.
ما إرتاح اللبنانيون لإنتخابات، إلا إذا زوروا الإنتخابات. ما إرتاحوا لميثاق، إلا إذا كان في خدمتهم ذلك الميثاق. ما إرتاحوا لدستور ولا لقانون، ولا لحكم ولا لأحكام، إلا إذا تجندت كلها لخدمتهم في أي وقت من الأوقات.
يقطعون الوقت تلو الوقت، الأزمة تلو الأزمة بتدوير الزوايا. بتدوير الأزمات. ما إعتادوا على إطفاء المحركات، ولو وصلوا إلى المحطات. أمضوا حياتهم يسيرون من أزمة إلى أزمة، ومن نكبة إلى نكبة. يهربون أولادهم إلى الخارج، ويوقدون حروبهم، بأبناء الناس. لا تهمهم العناوين التي يقتتلون حولها. يجددون العناوين. يجددون الرسالات. يجددون الكتب. يجددون الكتاب. ويوصون بتدوير الأزمة، إذا ما كانت الأزمة تأخذ طريقها للإنتهاء.