الشعر بوجهه الأرضي
كتبت فيسوافا شيمبورسكا البولندية، إلى هليودور: “تقول في رسالتك: ” أعرف أن في قصائدي أخطاء كثيرة. لكن وما المشكلة؟ لن أتوقف لتصحيحها”. طيب ترد عليه: ” لماذا يا هليودور؟ ربما لأنك تقدس الشعر أكثر مما ينبغي!. أم ربما تعتبره أمرا تافها؟ كلتا الطريقتين في معاملة الشعر خاطئة. والأدهى
أنهما تعفيان الشاعر المبتدئ من ضرورة الإنكباب على شعره.
من اللطيف دائما أن تحكي لمعارفنا عن روح الشاعر التي أستولت عليك، يوم الجمعة في تمام الثالثة إلا ربعا بعد الظهر. فأخذت تهمس بحرارة في آذننا، بأسرار غامضة. لكنا لا نجد الوقت لتدوينها. ولكن في البيت، وخلف الأبواب الموصدة، تأتي هذة الروح لتصحح وتحذف وتعدل تلك
الأقوال الآتية من عالم آخر. الأرواح لطيفة وأنيقة، ولكن حتى الشعر، يا هليودور، له وجهه الأرضي”.
معظم الشعراء، يصيبهم الزهو باللحظة الشعرية. يشعرون أن هناك ملهما. وأن هناك إلهاما. وينسون أنه مجرد تفجر لينبوع الشعر فينا. ينسون أن الشعر ليس في الخارج. وليس وراء الغلاف الجوي للأرض، بل هو من أعمال اليدين. من أعمال العينين. من أعمال الأذنين. من أعمال الفكر. بل هو من عبقرية العقل. ومن إحتكاك العقل بالنفس.
كذبة قديمة، أن الشعر إنما يصيب الشعراء، من طائر جاء إليه من جبل الأولمب. أو من قرين، تخفى وراءه، وصار ظله، قادما إليه من وادي عبقر.
ينسى الشعراء أقدامهم على الأرض، ويأخذون في التحليق، وهما وراء وهم. يريدون أن يتمايزوا عن الناس، كما يتمايز العظماء. وكما يتمايز القادة والرؤساء. وكما يتمايز أصحاب المواهب. يظنون أنهم من طينة مختلفة، وينسون ما قاله إيليا أبو ماضي في برهة إستنكار، لتعالي الناس على بعضهم: ” نسي الطين ساعة أنه طين”.
الشعر عمل، يقوم به شاعر. وربما وافاه من إجتماع حواسه في برهة لطيفة. فأحس به وعبر عنه، بالإمكانيات التي توفرها له، ثقافته الشعرية.
لا يأتي الشعر صاحبه إلا من وجهه الأرضي. سأل أحدهم جرير، فقال له: من أين يأتيك الشعر؟. أمسك جرير بيد صاحبه، وقاده إلى زريبة أبيه، وكان يفج طريقه في إجتماع العنز، تحت سقيفة، حتى وصلا إلى رجل عجوز أشيب، أبيض، ليس على بدنه ملابس، وهو يرضع من ضرع العنز. فقال من هذا. يعني والده. وأشار لصاحبه إليه.
فجرت حياة جرير، وحياة أهله، وحياة المجتمع حوله، عبقرية الشعر عنده. خصوصا شعر الهجاء. ثم كان له أن يحب ويعشق. أطاح به عشقه. هزه هزا عنيفا. جعله في لحظة أن ينسى شعر الهجاء، ويكتب أرق أشعار الغزل.
لا شيء يأتي من خارج الغلاف الأرضي للشعراء. عليهم أن يتخلصوا من هذا الوهم القاتل، وأن ينصرفوا إلى الجد والإجتهاد، كما يفعل المكدون والمجتهدون. عليهم، أن يحسنوا نوافذهم التي ينظرون فيها العالم المحيط بهم. عليهم أن يطلبوا الشعر من وجهه الأرضي.
كان الفرزدق، يذهب إلى البادية حين يطلب الشعر. كان على ناقته، يروح ويجيء، وهو الأمي، يهدر بالشعر مما وعته ذاكرته من أشعار الآخرين. يمضي الأشهر الطويلة، ولا يعود عن البادية، إلا وقد نال منها غصن الشعر.
الشعر لا يأتي أصحابه من السقوف العالية. بل من تجاربهم على الأرض. هكذا كان يفعل المتنبي. يلاقي الأعراب الأشهر الطوال. يعيش معهم. ويتنقل بين بطونهم. وحين يتم عمله الشعري، يعود به إلى مدينته، لينفقه في سوقها، ويعيش منه. كان الشعر مهنة المتنبي، مثلما كانت السقاية مهنة والده. والده سقاء بغداد. وإبنه المتنبي شاعر البلاطات والديارات. وكلاهما يتممان بعضهما البعض. كلاهما ينظران الحياة بوجهها الأرضي.
لا شيء نخسر. لا شيء نبدع. وإنما كل شيء يتحول، مما هو أمامنا على وجه الأرض.
الأرض أم الناس جميعا، وهي ترسلهم إلى أشغالهم كل صباح. ويعودون إليها كل مساء. توسدهم أحلامهم. وتدعوهم إلى تحقيقها. فيبرع هذا. ويخذل ذاك. وتتعدد الأعمال وتتنوع، بحسب مواهبهم. وبحسب نشاطاتهم. وبحسب إجتهاداتهم. وكل يأخذ نصيب، بما إجتهدت يداه.
أول الشعر الخروج من ثلم الأرض. وأخر الشعر النزول إلى ثلم الأرض. وبينهما دورة الشاعر حول الأرض، كما تدور الأفلاك. يغمس ريشة في قلبه، ويرسم الشعر بوجهه الأرضي، لا أكثر ولا أقل.