علامات الحروف
ليست القراءة متعة العقل وحسب. وصنوها الكتابة، ليست متعة النفس وحسب. هناك المتعة الأصلية، لا الثانوية، التي لا ينتبه إليها، والتي تخلفها القراءة والكتابة خلفها. تترك آثارها الخفية على الجسد، بعد أن تنسحب علامات الحروف إلى خوابيها هناك، وتأنس فيها. علامات الحروف الصاعدة إلى العيون عند القراءة، أو تلك الهابطة من العيون عند الكتابة، إنما تصعد وتهبط، في “مصعد الروح”. يوسع البدن لها في الصعود وفي الهبوط. يتدفق الدم في هذا “السيستيم المؤلل”. تتجد سككه تتجدد قنواته. يتفتح أديمه. يتعرق عظمه. تبدأ الشموس بالدخول إليه، والخروج منه، تضيء البدن بطاقاته. وتبدأ النوافذ، تنغلق وتنفتح، بتلقائية مدهشة. تحتفي بموكب الحروف، تمر ألفاظا وجملا وسطورا وفقرات: قوافل قوافل. وقاطرات قاطرات. ومركبات مركبات. تمضي بلا ضجيج. تسحب عجاجتها معها من أعماق النفس، وتترك علاماتها، بذورا صغيرة تنمو في مسام البدن.
ليست القراءة ولا الكتابة، متعة الروح والنفس، وحسب، وإنما هي آلية طبيعية أخرى، من منظومة آليات إحياء البدن: تمر الحروف جيئة وذهابا على سككها. على دروبها. تستأني هنا وتستعجل هناك. وتتمهل، وهي في طرقها، لتفسح في المجال، للإطلال على الآفاق. لتفسح في المجال للدخول في الغرف المظلمة. لتنتثر في الحقول والجنائن والبساتين، وتجري وريقاتها مع كركرات الأنهار، وشهقات أمواج البحار. لترتق تفتقات النفس، وترقع إهابها. ثم إذ هي تنسحب، تترك علاماتها خلفها، ثوب فرح وضوء وعيد.
البدن أيكة، شجرة، غابة صغيرة أو كبيرة. هكذا هي أبداننا. تحمل إليها طاقات القراءة والكتابة، الحروف، جماعات جماعات، مثل جماعات الطير. مثل الحساسين مثل العصافير. مثل الحمام، مثل اليمام، مثل الصقور مثل الشواهين. تحط عليها. تكسوها ريشا لنسج قماشة اللغة. وتترك لمناقيرها، أن تزقزق، في الصباحات وفي المساءات. تترك لها، على دوحة البدن أن تعبر عن رأيها.
بحيرة عميقة، شاسعة، تصب فيها الشلالات. وتجري فوقها النسمات، وتعول في أعماقها التيارات، تغور، تهدر بلا راحة، بلا إستراحة. بحيرة النفس هذة التي تسكن بدن المرأ، وتهزه هزا، عنيفا مرة، وهادئا مرة، فترى أسراب البجع وأسراب الدجاج الأصبح، وترى الحيتان وأسماك القرش، وأسماك السردين بالأطنان. جميعها ترخي بظلالها الثقيلة والخفيفة، على البدن، وتترك مناقيرها تنقر حروفها، وتسطرها نصوصا، نصوصا تشبع نهم العيون إلى القراءة، وتجعل الورق ينفض بياض الأمس بريشة غفلت عنها البجعة. بريشة من ريشاتها. ريشة بللها القطر.
القراءة والكتابة ، تجديد لبدن الحقول بالمحاريث. سطور قليلة وأثلام كثيرة. وأقلام، حسبها من غنى، شبع وري. تنضد الحقل سجاجيد سجاجيد من الأزهار، تجدده مواسم مواسم، وفصولا فصولا. وتدعه للأيدي والمعاول والمحاريث. تدعه لوثبات بنات آوى، تدعه للأجنحة تطير به. تدعه لأنفاس الصباح وآهات المساء، بعد خروج الفلاح منه، حاملا على ظهره جعبة عمره، وبيده قلم ودواة.
القراءة والكتابة على البدن الشاسع كصحراء عميقة، كأرض بلا حدود، تتداوله مثلما تتداول ريح الجنوب وريح الشمال، “سقط اللوى” و”توضح” و”المقراة”، في شعر إمرئ القيس. أليس هو القائل:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/ بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
فتوضح فالمقراة، لم يعف رسمها/ لما نسجته من جنوب وشمأل.
رياح القراءة أقوى من ريح الجنوب. رياح الكتابة أقوى من ريح الشمال. وهذا العود الناحل، بدن القارئ. بدن الكاتب، تهزه القراءة هزا عنيفا. تهزه الكتابة هزا عنيفا. هز عنيف يفتح الورد في وجنتيه. “ورد المعرفة”، الذي لم يجده أبو العباس، على وجنتي عثمان بن جني. رآه في الحلقة المسجدية يجلس للعلم، قبل أن يستوفي شروط المعلم والمتعلم. قبل أن يجيزه. نهره. ونهاه عن ذلك، وقال له: “لا أرى في وجنتيك ورد المعرفة”.
علامات الحروف، هي غروس الأزاهير والورود، لا تتفتح في أبداننا، إلا بالقراءة والكتابة. لا تتفتح في عيوننا، إلا بالقراءة والكتابة. لا تتفتح في عيوننا، إلا بالقراءة والكتابة. لا تتفتح في وجناتنا، إلا بالقراءة وصنوها الكتابة. ألهذا إذن، لا تضع الملائكة أجنحتها إلا للعلماء؟ ربما. غير أنه بالقراءة والكتابة، ننثر الحروف وشاحا، ثم نمضي العمر ننتظر علاماتها، جنى و وردا.