.. يعيد موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي في بيروت نشر مقابلة نشرتها جريدة ” النهار ” وأجرتها صديقة الموقع الباحثة سهير شعلان أبو زيد مع شاعر الحداثة الكبير أدونيس عام 2019 وذلك نظرا لأهميتها الثقافية ومحتواها الغني والمثير للجدل ..هنا النص :
بقلم الباحثة : سهير شعلان أبو زيد
بيروت، في 27 شباط 2019
(الجزء الأول)
في إطار الدراسة التي قمتُ بها بعنوان “الفينومينولوجيا في ثنائيّة #الروح والجسد” أدونيس وبنّيس نموذجان، ونلتُ على أثرها شهادة الماجستير من الجامعة اللبنانية، والتي سبق وأضأت، عبر “النهار”، على الحوار الذي أجريته مع الشاعر المغربي #محمد بنيس حول موضوعها، أنقل لكم الجزء الأول من الحوار الذي أجريته بخصوصها مع الشاعر أدونيس.
س- 1- نقرأ ديوان “أوّل الجسد آخر البحر”، فنتهيّب من فكرة القبض على الجسد النّصّ، القابع في رموزه المكتوبة، ونترّيث في محاولة اسنتطاقه بأدواتنا المنهجيّة، وعدّتنا المعرفيّة. فالجسد النّصّ، يقول نفسه، وينطق بلسانه، ويحفر بحرفه. ونشعر أنّ كلّ محاولة لتقويله، إنّما هي خيانة لمدلولاته. من هذا المنطلق، تحضرنا أسئلة، تبيّن حرصنا على جماليّة هذا الجسد النّصّ أبرزها: ألا يفضي تفكيك النّصّ وتجزئته إلى طمس ملامح هذا الجسد؟ ألا يخشى أدونيس على جسد نصّه من القارئ بحجّة المنهج، فيُسقط القارئ رغباته القابعة في لا وعيه، ويوقظ نزعاته الحالمة بالجسد الآخر، وإدراكه، والنّفاذ إليه وامتلاكه؟
ج- 1- بداية، عندما نقول الجسد، نقول الطّبيعة. الطّبيعة بكلّ تنويعاتها، وبكلّ طبقاتها، المعروفة وغير المعروفة، المقولة والمسكوت عنها، الشّعوريّ واللّاشعوريّ، ما يعني، أنّ الجسد محيط. وقلّما نرى باحثًا اخترق هذا المحيط بعمق. طبعًا لكلّ باحث أفق داخل هذا الجسد المحيط، يتحرّك فيه، ويرى الجسد عبره. لذلك الجسد عندنا في الثّقافة العربيّة، تقريبًا غير موجود، مجرّد لفظ. لأنّ الدّين، والتّقاليد الثّقافيّة والاجتماعيّة ضدّه، حتى حينما يُنظر إليه كمكان للاستمتاع، ومكان للّذة، ومكان للشّهوة، ومكان للانجاب، يُنظر إلى الجسد بواسطته وظيفة لشيء عام. ما يعني، أنّ الجسد لا يُعطى حقّه حتّى في ميادينه الحيّة المباشرة. وحينما تكون هناك حرّيّة في الكلام عليه، تكون حرّيّة نسبيّة، أو خلق شيء لمزيد من إقصائه، اسمه الرّوح. وأنا في تقديري، إذا كان هناك روح فعلًا، وإذا كان الرّوح معنا فعلًا، فالجسد هو نفسه ما نسمّيه روح.
– تتوافق إذًا مع فكرة “نيتشه” في عدّ الجسد روحًا، وعقلًا.
– جيّد هذا الاستنتاج… فالقوّة الحيّة الخلّاقة، الّتي تميّز شخصًا عن آخر، وتعطي فرادة الشّخص، هي الجسد، وليس العقل، لأنّ العقل مشترك: (2 + 2 = 4)، كلّ النّاس يتّفقون على هذا الاستنتاج. وكلّ ما هو مشترك، يُلغي الفرادة، يُلغي التّفرّد. والعقل يقوم على المشترك، بينما الجسد، يقوم على التّفرد. والدّليل على ذلك، أنّ الإنسان يعيش في بيت عائليّ، مع إخوة، من نفس الأمّ والأبّ، ولكن يكون لكلّ فرد جسد مختلف كلّيًّا عن جسد الآخر. حتّى الحلم، والمخيّلة تختلف عنده عن المخيّلة والحلم عندهم. إنّ أساس الثّقافة، هو معرفة الجسد، واكتشاف الجسد. ومع الأسف “الدّين” في ثقافتنا شوّه الجسد.
وأنا أسأل: إذا كان الجسد إلى هذه الدرجة، موضع الخطيئة، وموضع الرذيلة، وموضع اللّذة والمتعة، كيف يُمكن أن يخرج من هذا الجسد الأنبياء، والشّعراء، والخلّاقون الكبار في كلّ هذا العالم؟ كيف يمكن أن ننصف الجسد؟ الجواب، ليس سهلًا أبدًا. نحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف الجسد. إنّنا نجد أناسًا يعيشون مع بعضهم البعض، وينامون على الفراش نفسه، ولكن لا أحد من الطّرفين يعرف جسد الآخر. وتُختصر العلاقة العميقة، الّتي هي أعظم لحظات الوجود، بالعمل الجنسيّ ذاته. بينما العمل الجنسيّ، ما هو إلّا تتويج لشيء أهم، وأكثر إدراكًا.
كلّ خليّة في الجسد (جسد الرّجل، أو جسد المرأة)، تحتاج إلى وقت لاكتشافها، واستنطاقها، وتحريكها. والجسد كما هو رمزيًا، محيط كامل، يصعب اكتشافه بسرعة. فالجسد بصورته، أيضًا متنوّع، ومتعدّد. أحدنا يقرأ شكل الجسد، من الرأس إلى القدمين، يرى جغرافيا هائلة من التّنوّع، والتّعدّد، من الغنى، ولكن، كلّ هذا يُختصر بالفعل الجنسيّ. وعلى هذا الشيء بُنِيَ مفهوم الجسد، وصارت معرفة الجسد، نوع من الحيلة، والاختزال.
كلّ الحرّيّة الجنسيّة يختزلونها في فكرة [النكاح]. حتّى الّذين يُطالبون بحريّة الجسد، حجبوا الجسد من حيث لا يدرون، كما حجب الدّين الجسد. الجسد إذًا، أصبح محجوبًا من ناحيتين. وما يسمّونه عندنا بـ “الأدب الجنسيّ”، هو في الحقيقة أدب وصف مبتذل. لا يوجد كلام عميق عن الجسد، أو لنقل، نادرًا ما نعثر على كتابة عميقة عن الجسد. وإذا وجدنا كتابًا مهمًّا، عرف أن يستنطق الجسد، يُحوّل إلى مصدر أساسيّ تُعاد كتابته، ويُحوّل الجسد إلى جزء من ذهنيّة، وإلى ثقافة مشتركة. وهذا أيضًا، عدا كونه اشتراكًأ، هو حجاب على الجسد.
من جهة ثانيّة، الجسد هو مثنى: أيّ شخص، لا يمكن أن يكتشف جسده، إلّا مع جسد الآخر. هناك احتمال ألّا ينسجم الجسد مع جسد الآخر. أتصوّر أنّ معظم الأجساد العربيّة غير متلائمة مع بعضها البعض، وهذا يُنتج خللًا في البنية العائليّة. لذلك نجد هناك من يظلّ يبحث عن الحبّ، لأنّ أعظم ما يمكن أن يُعاش، هو هذه اللّحظة الّتي يصبح فيها الجسدان، واحدًا. ففي لحظة الذّروة، لا يعرف الإنسان نفسه، إذا كان ميّتًا، أو حيًّا. وفي هذا يصبح الجسد مثنى، الجسد لا يمكن أن يعشق ذاته، يريد أن يعشق جسدًا آخر، ولكن، هل هذا الجسد الآخر يتطابق معه؟ هذا هو السّؤال؟
لذلك، يظلّ الجسد أفقًا مفتوحًا، وبقدر ما نسير في هذا الأفق، نعي شساعته، وتعقيداته، وصعوبة فهمه. لكن ليس هذا هو المطلوب، المهمّ السّير في هذا الأفق. والسّير في هذا الأفق يلزمه شريك متطابق. ومسألة وجود الشريك المتطابق، ليست سهلة، كونها تحتاج إلى معرفة، وكشف، وفهم، ووعي. وإذا لم يكن الجسد صادقًا وجريئًا في تجربة الوعي، يمكن أن يتعثّر حضور هذا الشّريك.
س- 2 – قرأناك في هذه المسألة، وكأنّك تعوّل على المرأة في وعي الجسد، واكتشافه، وتحرير لغته. برأيك، هل يمكن أن تكون المرأة رائدة في استكشاف الجسد، واستنطاقه؟
ج- 2 – نعم… لأنّ وضع المرأة يُتيح لها أن تكون أرحب من الرّجل. الرّجل معقّد، خصوصًا الرّجل العربيّ، كونه متمحورًا حول دلالات الفحولة، والذّكورة، الّتي هي نوع من التّعويض. فالعربيّ عندما يتباهى بحصوله على أجمل النساء، وامتلاكه عشرات النّساء، إنّما يدلّ على السّلطة المرضيّة. والسلطة المرضيّة، مدعومة بالمال، تؤدّي إلى خلل في الحياة الثّنائيّة. والحقيقة، مثل هذا التّعاطي، يجعل الحياة الحميمة، العميقة عند العربيّ، فاسدة. فمجرّد أن يقبل الرّجل أن يكون مرتبطًا بأكثر من امرأة، ينتفي الحبّ، ويتبدّد العشق، وتنتهي الصّداقة بوصفها ضرورة بين الشّريكين. الرّهان على الذّكورة، هو نوع من القطيعيّة، الحيوانيّة. لذلك يكون البحث في الجسد في الثّقافة العربيّة، بحثًا معقّدًا جدًّا، يعتريه الكثير من الصعوبات.
س- 3 – كيف تفسّر ما كتبه فقهاء الحبّ في التّراث العربي؟
ج- 3 – قد تكون في هذه الكتب، نظريّات مفيدة، كما في كتاب “طوق الحمامة”، لابن حزم الأندلسي، لكن برأيي، أدبيّات هذه الكتب، لا تُغني، ولا تثمر من جهة، نقرأهم باحترام ونستمتع، ولكن، إذا كان هناك فعلًا ثقافة حقيقيّة عن الجسد، هي الثّقافة القائمة على التّجربة الحيّة، الخاصّة. لهذا، لا يمكن التّعميم، لأن كلّ تجربة جسدين، بالضّرورة مختلفة. لا يوجد قاعدة ثابتة، وإذا سُنّت قواعد عامّة في موضوعة الجسد، طُمس كلّ شيء. ولا يضع القواعد، إلّا أصحاب الأيدولوجيّات، وأصحاب الأديان، وأصحاب العادات الاجتماعيّة المشتركة.
س- 4 – ألا تعتقد أنّ الفرد العربي باطّلاعه على التراث الحميميّ المغيَّب، والثّقافة الغربيّة المتحرّرة، على استعداد لوعي جسده واستكشافه، وأنّ العقدة الرئيسة كامنة في الذّات المضللّة عن الوجود، المتشظيّة بين الثّنائيّات والتّصنيفات؟
ج- 4 – على افتراض أنّ هناك ذات، في الثّقافة الإسلاميّة لا وجود “للذّاتيّة”، لأنّ كيان الشّخص، أشبه بإناء ملآن إيمانات، ومعتقدات، وآراء. والإناء إذا ما أُفرغ ومُلئ ماءً جديدة، يصبح آسنًا. في ثقافتنا، المجتمع عبارة عن مجموعة بشر، تراكمات من الجماعات، تراكمات أفراد، تراكمات معتقدات. نحن تراكم، لا يوجد عندنا مجتمع حي.
– هل هذا يعني أنّك متشائم تجاه وضع المجتمعات العربيّة؟
– كلّ شيء قابل للتّغير، ولكن كيف يمكن إزاحة عوائق السّلطة الدّينيّة، وإقناع هذه السّلطة أنّ الدّين هو فقط مسألة إيمانيّة. نحن نحترم هذا الإيمان، ولكن، شريطة أن تُحترم الحريّة الشّخصيّة. نحن بحاجة إلى بناء مجتمع جديد، قائم على مؤسّسات، تتجاوز فيه العلاقة بين الفرد والآخر، الحواجز الطّائفيّة، والمذهبيّة، والدّينيّة، أي أن تكون علاقة قانونيّة، علاقة مدنيّة. عندما نصل إلى هذا المستوى من التّعاطي الإنسانيّ، يمكن أن تنوجد الفرديّة، وترتقي إلى الذاّتيةّ، بمعنى، ترتقي فرديّة الشخص، لتصبح ذاتيّة.
الفرديّة الموجودة في الثّقافة العربيّة، من نوع آخر، كفرديّة الرأي، فردية المعتقد، فرديّة بمعنى الواحدانيّة، وهذا يحتاج لتغيّرات البنية الفكريّة، للسلطات الدّينيّة، والاجتماعيّة. لكن يبقى بصيص أمل. حيث يوجد نماذج في التّاريخ، تُثبت، أنّه حتّى في هذا المجتمع الّذي ننتقده، وهو مجتمع جدير بالنّقد، ثمّة أفراد وعوا ذاتهم، ورفضوا الانصياع للسلطات المتحكّمة، ولو أنّ الثّمن الّذي دفعوه كان غاليًا. ما يعني، أنّ الحريّة تحتاج إلى نضال، إلى مواجهة.
لا يمكن للفرد أن يكون حرًّا في مجتمع لا يعرف معنى الحريّة. قد يضطّر الحرّ لأن يضحّي بنفسه. أحيانًا الصّدق يؤدّي إلى الموت. قد يدمّر الصّادق حياته. والمفارقة، أنّ الصّدق، الّذي هو فضيلة الفضائل، يصبح سبب دمار الإنسان في مجتمع الفكر الواحدانيّ.
س- 4- في ما خصّ المرأة، إلى أي مدى يمكن أن تسهم المرأة في تحرّير ذاتها انتاجيًّا؟ وهل ينعكس تحرّر المرأة على تحرّر المجتمع؟
ج- 4 – لا شكّ أنّ انخراط المرأة في ميادين العمل، يساعدها على الاستقلال الاقتصاديّ، وهو بدوره يساعدها على الاستقلال الذّاتيّ. ولكن، الاستقلال الاقتصاديّ، يتطلّب اقتصادًا ثقافيًّا، فحتّى لو حصلت المرأة على العمل، والحريّة، والمال، لا يمكن أن ينكسر القيد نهائيًّا. انكسار القيد، يتطلّب تحرّر العقل، المرتبط بتحرّر الجسد والعكس صحيح.
س- 5- في مسألة علاقة الشّاعر بالفلسفة، هل الشّاعر بالضررورة قارئ فينومينولوجيّ-بونتيّ، أي ينطلق من الوحدة العضويّة بين الجسد والرّوح؟ أم هو قارئ الجسد المتعالي عند “هوسّرل”؟
ج- 5 – كلّ ما يتعلّق بالجسد، لا يعمَّم، وليس هناك أية قاعدة. من أجل ذلك، لا يمكن لتجربة شاعر، أن تنطبق على تجربة شاعر آخر في الجسد. فكم من الشّعراء كتبوا عن الحبّ، ولكن معظم ما كُتب، كُتب ثقافيًّا. بمعنى كتابة وصف، وإنشاء. تحوَّل الكتاب المكتوب عن الحبّ، إلى معجم، والنّاس يتّبعون المعجم، ولا يتّبعون تجربتهم الخاصّة البكر.
أنا لا يهمّني أن تكتب عن الحبّ، ما يهمّني أن تكتب عن حبك أنت. أعطي مثلًا، صديقنا “نزار قبّاني”، كتب بالمعجم، لم يكتب فعل الحبّ، حتّى عندما كتب عن الحبّ، دخل المعجم. ذلك أنّ الكتابة عن التّجربة الجسديّة الحيّة مع جسد آخر، مسألة ليست بهذه السّهولة، هي مسألة بغاية التّعقيد. أن تكتب، يعني أن تبتكر مفردات جديدة، وعلاقات جديدة، حتى يمكن أن تنقل تجربة جديدة، تجربة بكرًا.
س- 6 – كتابة من هذا النّوع، تحتاج قراءة خاصّة، وكتاباتك الجسد، شيفرة عشقيّة، إلى أيِّ مدًى بمقدور القارئ العربيّ المقيّد، أن يفكّ هذه الشّيفرة؟
ج- 6 – كتاباتي، هي كتابات رمزيّة، وأحيانًا صوفيّة. والوسط في الثّقافة العربيّة، خارج هذه الهموم، لا يُعنى بهموم كهذه. يُعنى بالمشترك، بالعام، وهناك جدار، سور هائل، يفصل الإنسان العربيّ، عن كينونته الحقيقيةّ. لذلك الإنسان العربيّ، كائن ثقافيّ، بمعنى، أنّ الدّين موجود، الثّقافة الاجتماعيّة موجودة، الثّقافة الخارجيّة موجودة، لكن هو: أعصابه، وخلاياه، وأحلامه، ومخيّلته… مفقودة، ما يعني، أنّه إنسان فارغ، محشوّ بما ليس منه، ويتحرّك بهذا الّذي ليس منه.
– هل تعتقد أنّ بإمكان الفنّ أن يملأ هذا الفراغ؟
– الفنّ، يقرّب الإنسان لذاته أكثر. حتّى بالفنّ، نلاحظ أنّ التّجارب الحيّة في الكتابة الإبداعيّة الموجودة في التّراث، طمسها النّقد العربيّ، طمستها “الجامعة العربيّة”، بفعل الدّين وتأثيره. واللّافت، أنّ العربي يسمح لنفسه أن يقرأ عن نبيّه وزيجاته المتعدّدة، ولكنّه يتردّد في الكلام على مسألة حميميّة. من هذا المنطلق، يجب أن يُعاد النّظر في مسألة الإنسان، والحياة، والدّين في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة.
( يتبع الجزء الثاني من المقابلة قريبا )