السيرة الشعرية
لست هنا لأتحدث عن سيرة الشاعر. ولا عن سير الشعراء. ولا عن الدواوين والقصائد والمقطعات الشعرية الناجزة للشعراء. لست هنا لأتحدث عن سير الأدباء، ولا عن سير المؤرخين والرحالة والجغرافيين. لست هنا لأتحدث عن سير الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء النقد الأدبي. لست هنا لأتحدث، عن سير الفنانين من أهل الفنون التشكيلية، ومن أهل الفنون الموسيقية. فأنا أستثني مسبقا كل هذة الجماعة العظمى، من الحديث عنها ههنا، لعلمي مسبقا أن لها صلة ولو في الحدود الدنيا، من الأدب والشعر. لأنهم يقولون الشعر في خلواتهم، بعد فراغهم من أعمالهم، أو أثناءها لا فرق.
أريد فقط أن أتحدث عن السيرة الشعرية عند الآخرين، الذين يعيشون حياتهم ويتابعون أعمالهم، في حقول العلم الصرف الذي لا يلامس النوع الأدبي، لا من قريب ولا من بعيد. في حقول الحياة العادية الصرفة. فهذة الحقول، صالحة للزيارة، حتى نستطلع ما عند ناسها من شعرية، تستأهل حقا، أن ندرس عندها السيرة الشعرية المحضة، دون سواها. على الرغم مما نعرف عن الكثيرين من هؤلاء، تأبيهم على الشعر. على الرغم مما يظهرون أمام الشعراء وأهل الأدب، من أنفة من الشعر. من إستعلاء على الشعر من إستخفاف بالشعر.
أردت أن أتحدث هنا عن السيرة الشعرية عند هؤلاء. أعني الناس العاديين، الذين لا يعلمون ما الشعر، وإن نضحت وجوههم به. الذين يأنفون من الشعر، وإن كان لسانهم يذرب به. أريد أن أتحدث عن هؤلاء الناس الذين يجفلون إذا ما قلت لهم: إن بعض كلامهم شعر. إن بعض تورياتهم من الشعر. إن بعض كنياتهم، ورنين جملهم، وتتابع عباراتهم، بكل ما فيها من إيقاعات، إنما هي من شموس الشعر. بإعتبار أن للشعر شموسا، لا تصيب هامات الشعراء وحدهم، أو من هم يزرعون في حقول الشعر، وإنما تصيب مثل الشمس، كل الناس، وتصنع لهم ظلالا. فمنهم من ينتبه لها، ومنهم من لا يأبه لها، وما إذا، ذنب الشمس.!
السيرة الشعرية، إنما هي صنو السيرة الذاتية. ليست تختص بالشعراء والأدباء وحسب، وإنما هي هبة الشمس. هبة منها لجميع الناس على الإطلاق. فليس هناك من الناس، من لم يصبه الشعر بمسه. وليس هناك بين الناس، من لم تمر عليه عربة السيرة الشعرية.
عنكوبة السيرة الشعرية، تنسج خيطانها بالتساوي، على جميع الناس، فمنهم من يقدر على صنع قصائد ودواوين منها. ومنهم، من تتموه عليه، فنراها تساقط من نفسه، مثلما تساقط الثمار الناضجة دون يد أو كف من قاطف. ولا تدري الأشجار بها.
كل إنسان إنما هو شاعر بالخيال الأولي، يقول كولردج. ولكنه يصنع القصائد ويقصد القصيد، ويؤلف الدواوين، بالخيال الثانوي. فالناس يتساوون بالخيال الأولي. وهم يتفاوتون بالخيال الثانوي..
لا أريد أن أتحدث عن أصحاب الخيال الثانوي. ولا أريد أن أكتب هنا سيرتهم الشعرية ولا أريد أن أتوقف كذلك عندها. وإنما أريد أن أتحدث عن السيرة الشعرية عند أصحاب الخيال الأولي، الذين نزلوا هناك في محطة الشعر، ولم يتابعوا سفرهم للنزول في المحطة التي تليهم: محطة الخيال الثانوي، وينضموا إلى أصحاب “بيت الشعر”.
والسؤال إذا: ما صفات الشعر الذي يصدر عن الخيال الأولي. وهل يستحق أن تكون له سيرة شعرية. وهل يستحق من العلماء، أن يقفوا على خيمة الخيال الأولي. ما يريدون أن يجدوا حقا، في خيمة الخيال الأولي، غير اللقى الشعرية، غير “تبر” الشعر، تربته منابته. يحتاج الأمر إذا، إلى مهارة نقدية لفحص اللقى، وفحص التربة وفحص التبر، وكم فيه من “ذهب” التجربة الشعرية، التي تصلح أن تكتب لها سيرة. و بالتالي، من هؤلاء العلماء الذين يتأهلون، لمثل هذا النوع من العمل النقدي الصعب، الذين يشبه إلى حد بعيد علم الأركيولوجيا، في البحث عن الدفائن.
أزعم أن جوهر الشعر هو من دفائن النفس الإنسانية. و أن غرض العمل على السيرة الشعرية، هو في تقصي الحقائق. حقائق الشعر المدفون في قاع النفس، والذي يخرج على شكل “Labssus/ زلة لسان”، بين الحين والآخر. ومهمة السيرة الشعرية للشخص، هي فحص ما في ملفوظاته، من نسب مئوية، تمثل عينات شعرية حقيقية، تستحق أن تستوقف الباحثين والدارسين، وعلماء الألسنية، بل علماء الإناسة على حد سواء.
إن التعويل على علم الإشارة، فيه الكثير من التجني على السيرة الشعرية، في مرحلة الخيال الأولي. فربما إسترفدت من إيقاعات البدن. ومن حركات الأطراف. ومن الصيغ التعبيرية، التي تصدر عن منابع غير حروفية. إذ ليس للشعر ينبوع واحد. وإنما هو متعدد الينابيع.
السيرة الشعرية، تذهب إلى هذة الينابيع غير الحروفية، تماما مثلما تذهب إلى الينابيع الحروفية، لإستكمال تحرير مضبطة السيرة الشعرية. إذ كل شيء من الخيال الأولي، يستحق الدراسة، لأجل بناء السيرة الشعرية عند الناس العاديين. حتى الصمت، فهو حين يرين، قد يأخذ مصاغ الشعر.
فهناك مادة الشعر الأصلية في لغة أصحاب الإختصاص وحركات أبدانهم، من مهندسين وأطباء وعلماء، ومن أجراء وموظفين وإداريين. ومن خبازين وحصادين وسقائين وعمال مناجم، ورعاة مواش ورعاة أبقار. بل من فلاحين ومزارعين وكسبة وتجار سوق، وتجار كشة وسواقين وعسكرين. فهؤلاء كلهم شعراء بالخيال الأولي. والسيرة الشعرية عندهم، أغنى حتما من السيرة الشعرية عند الشعراء. لأننا أمام شعر مستور يحتاج إلى الحفر عنه، حتى الوصول إلى جراره المخبأة بعناية فائقة إن في كهوف النفس. أو في روان الصمت.
زار نزار قباني، طرابلس في الثمانينات، بدعوة من الرابطة الثقافية. ففاجأته نساؤه بإحتشادهن موجات موجات. حشد غزله كل نساء المدينة. وبعد الإنتهاء من إلقاء قصائده، كانت له إستراحة المحارب في الصالة الكبرى. تحوطته النساء من كل الجهات. كان لهن طلب واحد: “الكتابة التذكارية -Ortograf”،على مدوناتهن الحميمة. فجاءته سيدة من أقصى المدينة. إنتظرت دورها. فرغ لها نزار . طلب منها مذكرتها. فكشفت عن ساقها، وقالت: إكتب هنا.
إنتصر الشعر الصامت على الشعر الصاخب، وعلاه. وران الصمت في الصالة. وأجفلت فرس نزار بين الجموع.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.