” على متن الإبحار ” – الجزء 2
قصة قصيرة للكاتبة د. ساندي عبد النور
-×-×-×-×-
كان ردُّها قاسياً و مباغتاً و إنْ كان معطّراً بالصدق! لم يجدْ الكلمات المناسبة كي يقنعها بأنْ تعود عن قرارها الحازم! حتّى البراهين التي اعتاد استعمالها بفطنةٍ عالية في مسألة الإقناع أفلتتْ منه فكسر صمتاً طال فيه , برحيلٍ بادرتْ به هي أولاً , حتّى وجد نفسه بعدها راضخاً له ! هكذا افترقا… هكذا ذهب كلّ واحد منهما في طريقٍ مختلفة!
كان فراقاً موجعاً فقد عوّل على سذاجتها و براءتها و خالها ستقبلُ بعرضه. لم يخطر في باله أن تكون قد شاختْ بهذا القدْر و علَتْ حتّى على اغراءات عروضه التي لطالما حلِمَتْ أن تُسكَب على مسامعها من رجلٍ مختلفٍ عن باقي الرجال ! افترقا… نعم افترقا ووقّعا نهاية محزنة ! هي رحلت بدون غصة فقد تألّمت طوال عمرها بما يكفي حتّى زال عن روحها الألم فتجاوزته! أمّا هو فذهب و في قلبه ألف سؤال… لِمَ تصرفتْ بهذه الطريقة المخيفة !؟! لِمَ تبدّلتْ و كيف صارتْ متحجّرة القلب ؟ بمقدورها أن ترمي أحاسيسها في يمّ النسيان و أن تخلَعَ شعورها كما تُخلَع الملابس البالية لتُلقى في مكبّ النفايات!؟!
كان فراقاً صامتاً و راقياً في آن! إنّه إنعكاس لرقيّها.. لطالما استساغت الوداع الأنيق، المطرّز بعزّة النفس و الكِبَر !! رحَلتْ كما تمنّتْ على يقينٍ أنّ الحياة تُطالِب طموحها اللامحدود بإنجازات….
رحَلتْ تحملُ سلّماً ستصعده مجاهدة كي تبلغ أعلاه و حين تصل لن ترمي بها الآلهة كما فعلتْ مع “سيسيف” فالآلهة التي عاقبت هذا الأخير ، راميةً الحجارة إلى الأسفل كلما لثم قمّة الجبل كي ترغمه بعدها على النزول إلى أقاصي القاع لينتشلها و يصعد بها مجدداً ثم تسقطُ فيعاود الفعل عينه إلى ما لانهاية ، ليست أقوى من أبي الخيمة الزرقاء الذي ما كفَّ يقودها و يسدّدُ خطاها حتّى الرمق الأخير ! هي لا تشبه “سيسيف” إلّا في الجهاد.. أمّا في النعمة فقد تبيّن أنها ناجية و أنّ عين الله عليها تبغي مكافأتها و خلاصها!!
نعم افترقا.. عادَ هو الى انشغالاته الدنيوية فغابَ عن باله أنْ يسأل كما غابَ عن باله أن يحرّكَ ساكناً لعلّ الرباط الخفيّ الذي يجمعهما لا ينقطع ! بينما هي غرقِتْ في عالم المجد و السؤدد فالسماء أخبرتها أنّها مصطفاة كي تؤدي رسالة!
كرّتْ الأعوام دون أن يجمعهما لقاء واحد أو توحدهما مكالمة واحدة… غادرتْ البلاد فنجاحها تخطّى أرض الوطن و شهرتها كسّرتْ حدود الجغرافيا…. أمّا هو فبقيَ في الربوع فقد أتعبَته الأسفار و ملّ منها ! لكنّ خبر وفاة صديقٍ مشتركٍ لهما جعل بطائرتها تحطُّ على أرض بلدها.. فالتقيا في صلاة تشييعه.. حاولتْ الهروب من عينيه و الإفلات من يديّه اللتين تكادان أن تحصراها لكنّها تفاجأتْ بصلابةٍ ظلّلَته و عنادٍ استوطن فيه فمنعها من الفَرار…
وقفَ أمامها كأسدٍ بقلبِ طفل و قال لها بجرأة غير معهودة: “إنْ كنتِ نسيتِ فأنا لم أنسَ.. رائحة حزنكِ لا زالتْ عالقة على جلدي مذ آخر مرّة التقينا أشمها كلّما ضاقتْ بي الدنيا فيطمئن قلبي… إنْ كنتِ نسيتِ فأنا لم أنسَ.. عطر عنفوانكِ تسلَلَ في مكامني يومها فصرتُ أقوى بكِ.. إنْ كنتِ نسيتِ فأنا لم أنسَ حبّكِ.. نذرتُ نفسي للعفّة فلا إمرأة تستطيعُ أن تضاهيكِ… “
صُعِقَتْ به فقد تركته وقتها متردّداً بعض الشيء و مُفرِطاً في حسابِ خطواته فصرخَتْ بعُلوِ الصوت تسأله:” باللهِ عليكَ.. من أنتَ؟ و ما شأنكَ بي.. دعني و شأني.. أريد أن أغادر”.
أجابها بقوّة حبّه لها:” أنا من ناشدكِ البقاء منذ سنواتٍ عديدةٍ و عرض عليكَ الحبّ و رفضتِ.. أنا من استفاق من سنين و غازل غرورَكِ و توسّلَ عنفوانكِ كي تبقين فرحلتِ”.
تمتمتْ في أذنه: ” و ماذا فعلتَ غير أنّكَ قبِلْتَ و تركتني أرحل”.
ردّ بصدقٍ:” خلتُكِ ستضعفين و سترجعين فأثبتِ لي و لكلّ من عرفكِ أنكِ أنثى مختلفة.. أنثى استثنائية يصعب وصفها و فهمها و الوصول إلى فكرها.. “
فأجابتْ بفطنتها المعهودة:” أتظنُ أنّي الآن بعد رحلات نجاحي الشاقّة سأقبل أنا التي من قبل رفضتْ و مضتْ… “
قال لها:” إذن اقبليني صديقاً كصديقنا الذي جئتِ تشاركين في مراسم تشييعه و شاركي بالمرّة في مراسم تشييعي فأنا بدونك من الآن وصاعداً ميتٌ أخاف حتى أن أناشدك البقاء ملِحّاً فتتشبثين برأيكِ… باللهِ عليكِ سيدتي من بمقدوره أن يفهمكِ !؟”
ضحِكتْ ثمّ تذكرتْ أن مراسم دفن الصديق لا زالتْ قائمة فابتلعَتْ شهقاتِ قلبها الذي أخبرها دوماً أنّه بالبحّار إلى المنتهى متيّم بينما كانت في كلّ مرة تسكته بانشغالاتها و طموحاتها و أحلامها الشاهقة.. تلامستْ الأيادي.. شبّتْ نيران ولعٍ فيها و اشتعلتْ على ضوء قنديل قصّة عشقٍ تليقُ بها هكذا نهاية!
مبدعة و متميزة في كتاباتك إلى أقصى الحدود 💙