الغبطة الشعرية
ليس بالضرورة أن يكون الإنسان شاعرا، حتى تصيبه “الغبطة الشعرية” بلوثتها. وليس بالضرورة أيضا، أن يكون الإنسان قارئا للشعر، حتى يشعر بالغبطة الشعرية. ليس بالضرورة أيضا وأيضا، أن يكون الإنسان أديبا، حتى يتذوق الغبطة الشعرية. ذلك أن مثل هذا الشعور، يمكن أن يصيب المشتغل بأنواع العلوم كافة: مثل الطبيب والمهندس والفيزيائي والكيميائي والجغرافي، ورجل التاريخ. مثل هذا الشعور يمكن له أن يصيب المشتغلين في فنون الرسم والموسيقى والمسرح والغناء والسينما. يمكن أن يصيب بوردته، خد العامل والفلاح والفحام والملاح وسائق القطار. وسائق الترام. يمكن أن يصيب قلب العاشق، وقلب الأم وقلب الأب. يمكن أن يصيب عيون بل جميع حواس رجل الفضاء، وهو إذ يكون في برهة إختراق جدار الخوف مندغما مع إختراقه، جدار الخوف، ليسبح في الفضاء، أو يحط على ظهر كوكب آخر، ليشك علمه عليه. مثل هذا الشعور ب”الغبطة الشعرية”، يمكن أن يفاجئ عالم المختبر، وهو في عز إنصرافه عن الدنيا، وراء فيروس صغير أو حقير. وراء بكتيريا، أصغر من رأس الدبوس، بملايين المرات. الشعور بالغبطة الشعرية، يمكن أن تصيب أما تحدق في عيني وليدها، بعد ولادتها بقليل.
بهذا المعنى، فإن “الغبطة الشعرية”، إنما هي حالة عامة، تصيب جميع الناس بوردها، ولو بفوارق مختلفة الدرجات. إنه نوع من الغبطة العظيمة. إنها نوع من الغبطة المدهشة، والتي لا تعادلها أية غبطة أخرى، يغبط عليها إنسان. إنها نوع آخر من “العيد”، الذي لا يشعر به، غير الذي يستيقظه “العيد” فجأة في صبيحته، ويلبسه ثوبه، ويدخل معه في فرح بهيج. وهذة الحالة، وقف عليها الشاعر، خليل حاوي في نشيد الجسر، فوصفها، فقال:
” في صناديقي كؤوس لا تبيد
فرح الأيدي التي أعطت، وإيمان، وذكرى
أن لي خمرا وجمرا”.
تماما مثلما قال: “أن لي عيدا وعيد،
كلما ضوأ في القرية مصباح جديد”.
يمكن لنا أن نعدد آلاف الحالات التي تتلبسها “الغبطة الشعرية”. ويمكن أن نحصي آلافا مؤلفة من الأعمال، التي تكون الغبطة الشعرية، هي جائزة صاحبها. غير أن الشاعر دون غيره من الناس، هو من تصيبه الغبطة الشعرية الأصلية. غير أن قارئ الشعر وحده، عاشق الشعر وحده، هو من تصيبه الغبطة الشعرية الأصلية.
فمثلما عرفنا، منذ زمن آدم، الخطيئة الأصلية التي أسست لخروجه من الجنة، كذلك وبموازاتها، كانت الغبطة الشعرية، التي أسست لوجوده على الأرض. أسست للكلمة على الأرض، التي فجرت الشعر في قرائح الشعراء و أنبتت الشعر في نفوس الأدباء، وفي عيون العلماء، كل بحسب طاقته فصاروا يغرفون منها، كل بحسب حاجته. وهذا أول تجل للتعاون الإنساني، في المجال الحيوي، للإجتماع الإنساني، في التاريخ.
“الغبطة الشعرية”، قديمة في تاريخ البشرية. فهي إذن، من زمن الخطيئة الأصلية. أو ربما كانت تعويضا عن خسارة الجنة. إذ لا يقيل الخاسر من هم خسارته، إلا حين تصيبه فجأة، ما يعرف بالغبطة الشعرية. بحيث تصير فرحا أصليا. أصيلا، يعوض خسارة أصلية. فتدخل بعد ذلك في زمن الإنسان، لتقيله من خسارته، وترد له فرحه وغبطته وبهجته، من حيث لا يدري.
الغبطة الشعرية الأصلية، هي الوجه الآخر للفرح، بموازاة الوجه الآخر للحزن. إنها الزرعة الأولى في فم الإنسان، التي تفرج أسنانه إبتهاجا، وتطلق محياه غبطة وفرحا. وتجعله، كأنه في عيد حقيقي، لسبب لا يزال يجهله حتى الآن.
هل نقول إن الإنسان، حين خسر الجنة، عوض بالشعر عنها. أم نقول إنه خسر الجنة وربح الشعر؟ أم نقول أيضا وأيضا، إن جين الشعر، هو أصل الغبطة والإبتهاج والفرح والعمران، في الأرض!
إميل حقا، إلى هذا الرأي الأخير، وإن كنت آنس بالآراء الأخرى، لعذوبتها في النفس. فجين الشعر، أصيل في النفس الإنسانية. ولولاه، لما كان تقدم حضاري، ولما كان تقدم عمراني، ولما كان تطور إنساني. بل لما كان للصبي أن يأمل، وللشباب أن يأمل، ولا للشيخ أن يأمل. فجين الشعر، مثلما هو جين الشعور بالغبطة الأصلية، فهو بالتالي جين الفرح بالعمل وبالأمل على حد سواء.
فاجأني حقا البارحة، الصديق المهندس محمد الأمين، بل صدمني قوله: “لا ضرورة للشعر”، في معرض تساؤلي في مقالة لي: “هل الشعر ضرورة؟”. نسي صديقي المهندس محمد نفسه، أنه مؤنس الشاعر عباس بيضون. بل يتمنى لو كان ظله. لشدة عشقه لشعره. وكثيرا ما رأيته يصغي إليه، حتى ليكاد يشتهي إن يتلمظ كل كلمة شعرية تخرج من فمه.إمعانا في تذوقه لشعره، تذوق الفراشة للأريج. جعلني صديقي أتساءل: عن سره. فتذكرت المثل البلدي المصري: “أسمع كلامك يعجبني، أشوف فعايلك إتعجب! “.
أزعم جازما حازما، وبلا أي نوع من أنواع التردد في القول، الذي كان من صفة الخليفة الأموي معاوية، أن جين الشعر كان في الأساس، من إجتماع آدم بحواء. حقا، كان “جين الشعر” أولا. ثم صار علقة. ثم صار مضغة.حتى صار عظاما. و إهابا على بدن. وأن أول بدن كان، بعد أدم، بدن الشاعر. حمل مزماره في فمه، وصار ينشد. كان الشعر والغبطة به، فرحا أوليا، يؤسس لمعنى الوجود. وكانت أول جريمة في الأرض، صراعا على الشعر. لهذا فقط، قتل قايين أخاه هابيل.
جين الشعرحقا، هو أول الإنسانية. وهو لذلك، الفرح بها، لقاحا شعريا، مؤسسة شعرية، ف”غبطة شعرية” على الأرض.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
