ميثاق الذات
كل إنسان أحوج ما يكون
إلى ميثاق الذات، قبل غيره من الحوائج الكثيرة التي يحتاجها. أحوج إلى عهد يقطعه على نفسه. أحوج إلى إلتزام المصداقية في ميثاق الذات، الذي هو نوع من الإلتزام بالمعايير والمقاييس والشروط، التي يريد لذاته أن تلتزم بها، وتدخل في عهد من نوع “ميثاق الذات” مع صاحبها، قبل أن تدخل في أي عهد، أو في أي شكل من أشكال العهود مع الناس، أو مع المجتمعات، أو مع الأندية والأحزاب والأديان والدول. ذلك أن ميثاق الذات، هو أس المواثيق في المجتمعات كلها. وبدون ميثاق الذات يصبح المرأ مثل أية دابة تسعى.
ميثاق الذات، هي غيرها، “الذاتوية” المقيته، الكريهة التي تشبه إلى حد بعيد النرجسية المرضية، بمعنى “عشق الذات”، ولو على حساب الآخرين. هذة الصيغة من الميثاق، قلما تعرف عليها الناس. وقلما عرفتهم. قلما إنتهجوها في حياتهم، فصارت لهم نهجا. قلما صاغوها لأنفسهم، فصارت لهم صيغة حياة. بكل ما تشتمل عليه الحياة من ألوان ومن فنون ومن أشكال ومن أنواع. ميثاق الذات هو “عمود النفس”، وعمود الشخص، وعمود علمه وأدبه وفنه ودينه وخلقه. هو عمود الشخص في بيته وأسرته. وهو عمود الشخص في عمله ووظيفته. وهو عمود الشخص في إنتمائه الوطني والقومي والإنساني. هو عمود إنتمائه، لأية جهة كان هذا الإنتماء، الذي إرتضاه إنتماء له في حياته كلها، من برهة وعيه، حتى برهة مغادرته أبواب هذي الحياة.
فيليب لوجون، كان من أوائل النقاد، بل من أوائل العلماء الذين إنتبهوا إلى ميثاق السيرة الذاتية من زاوية الكتابة عن الذات ونحلها وإنتحالها. من ناحية تطريسها. أو تناصها. من ناحية تقمصها، أو تقميصها. غير أنه، كان يؤكد على الروائي ، ضرورة التنبه إلى ميثاق السيرة الذاتية لدى الشخصية الروائية التي يصيغها.
كان “لوجون” يشتغل على النقد الروائي. بل على نقد الرواية. طلب “ميثاق السيرة الذاتية” من الروائي، لأنه كان قد عين حقل إختصاصه. كان قد عين حقل دراسته. حقل عمله. فهو مثل الرسام، إختار أن يرسم على قطعة صغيرة. وهي طريقة الرسامين في إمتحان إبداعاتهم، قبل أن ينتشروا في الرسم على الجداريات. قبل أن يقدموا على رسم جدارية.
أجد أن هناك ضرورة لطلب ميثاق السيرة الذاتية، لضرورة الإلتزام بها، لدى جميع كبار القوم، من شعراء وأدباء وعلماء وسياسيين، وشخصيات مجتمعية، وقادة دول على حد سواء. وهذا لا يعفي الإنسان العادي، من أن يكون لنفسه ميثاق الذات، بمعنى “ميثاق السيرة الذاتية”، ما دام أنه يخضع لقانون التنشئة والتعلم والتأدب والتحضر والجلوس للناس، أو الجلوس معهم وبينهم على حد سواء.
فميثاق السيرة الذاتية، إنما هو السكة التي تسير( بضم الأول وفتح الثاني وتشديد الثالث) عربة ميثاق الذات عند كل شخص، إبتداء من الإنسان العادي، حتى الإنسان المبدع والعالم والقائد. فكيف نطالب المرأ بميثاق الذات، إذا لم نطلب منه مسبقا سيرته الذاتية. ذلك أنها السبيل، إلى توثيق الذات، وصناعة ميثاق لها. أعني توثيق الذات بالسيرة، ثم وضع بنود لميثاق الذات، من خلال هذة السيرة.
ميثاق الذات إذا، له بنود تصحح وتصوب السيرة والمسيرة، لدى كل الناس، وخصوصا منهم المقدمين في المجتمعات. فلا يصح للشاعر ولا للأديب ولا للروائي ولا للسياسي، إلا أن يكون في عنق كل واحد منهم، ميثاق ذاته، الذي إرتضاه لنفسه، حين يخرج للناس، ويتصدر للشؤون الثقافية والإحيائية والسياسية والخدماتية على حد سواء.
ميثاق الذات، إنما هو “عهد شخصي”، بل عقد شخصي مع النفس، يحمله في عنقه، كل من يقدم نفسه في المجتمع، على أنه ذو صفة. أنى كانت هذة الصفة، في درجتها من الأهمية. فكيف يريد الشعراء أن يصوغوا عهودا لأنفسهم. وكذا الأدباء والعلماء والقادة وجميع المقدمين في الأرض. هذا هو السؤال لهم؟.
ميثاق الذات، إنما هو ميثاق شرف شخصي، يحكم بين صاحبه والآخرين. لا يحتاج، لا إلى شرح ولا إلى تفسير، حتى نفهم، قوة الشخصية، وقوة علمها، وقوة أخلاقها، وقوة إلتزامها، وقوة صمودها وثباتها ومواجهتها، حين تنطلق في مباشرة خطواتها على الأرض.
“ميثاق الذات”، هو أقوى بكثير من السيرة الذاتية، ولو كانت هذة الأخيرة، سكته ومصعده وسلمه، إلى الترقي في الحياة. ذلك أنه يترجم النفس لصاحبها، قبل أن يترجم السيرة لقارئها. إذ هي تلك الشيفرة المزروعة في عمق النفس، لتحمل شروط ومبادئ عزيزة على الروح والنفس.
ميثاق الذات صيغة ترتضيها النفس لنفسها، في التنازل عن الكبرياء. وفي التنازل عن الآمال. وفي التنازل عن الشهوات، وفي التنازل عن الدنيا. فهذا النوع من التنازلات، لا يتم إلا بموجب صيغة إنسانية طموح. تقدم الآخر على الأنا. وتعمل للآخر، قبل أن تعمل للأنا.
ميثاق الذات لا يقوم فقط، على تقديم التنازلات وحسب. وإنما هو صيغة نهوض للشخص، من خلال الإنبناء العلمي والثقافي والمعرفي والخلقي. حيث يعكف الشخص القابض على ميثاق الذات، على تقديم أقصى قدراته العلمية في سبيل تقدم المجتمع. في سبيل تقدم الإنسانية.
ميثاق الذات، يحتم على صاحبه، على حامله، الأخذ بالأولويات. فكل أمر عام، إنما هو أولوية. وكل قضية عامة إنما هي أولوية. وكل شأن عام ، إنما هو أولوية. إذ أن عهد ميثاق الذات بصاحبه، هو الترفع، في موضع الترفع. والإندفاع، في موضع الإندفاع. وذلك على قاعدة معلومة منه مسبقا، أن لا عهد لمن لا عهد له، ولا ميثاقا ذاتيا مشرفا للنفس، إذا لم يأخذ بكل هذة الإعتبارات.
ميثاق الذات، إنما هو أخيرا، لا آخرا: هوية المرأ الحقيقية، يضمها إلى سائر الهويات التي يحملها. هوية يحملها في عنقه، هي كل شرفه في الحياة. فما تنفع الهويات جميعا، بلا ميثاق الذات. هل تحمي صاحبها من السقوط. من الهوي.
ميثاق الذات، هو أعظم الهويات الشخصية هو أعظم العهود. لأنه ميثاق شخصي. لأنه عهد شخصي. لأنه إرادة شخصية للنهوض.