الرشاقة الأدبية
أهم ما يمكن أن يوصف به أي شيء، أي عمل، أي إنسان، أي مخلوق، إنما هو الرشاقة الأدبية. ذلك أنها ليست حكرا على الأدباء والشعراء وأهل الفن، بل هي سمة جمالية محضة، وهي بالتالي رسالة سمو في المعاني، التي تحملها الرشاقة، على أجنحة الفراشات، وفي أعناق السنابل وتطير بها. غير أن الرشاقة إنما تصيب النوع الأدبي، أكثر من غيره، لحقله الواسع، وتجعل النقاد وجميع المهتمين بالرشاقة في الأسلوب الأدبي، يتخذونها مقياسا، بل ومعيارا، يحتكم إليها، في المفاضلات بين المواضيع وبين الأشياء، لجهة رشاقتها، وخفة دمها، وسهولة رشفها أو إحتسائها، مثل “شفة القهوة”، في المنازيل والدواوين ومضارب البدو، وفي الدور العربية التراثية القديمة.
أهم ما يوصف به الروائي اللبناني المخضرم، إلياس العطروني، في مجموعته القصصية القصيرة: “غريتا”( 100ص، غوايات-2015، ط١)، هو أنه رشيق الموضوع، رشيق العبارة، رشيق الجملة، رشيق الأسلوب، رشيق المعاني، رشيق الإسناد، رشيق الرموز. وهذا كله، إنما يعود -برأيي- إلى تنشئته الثقافية التي نشأ عليها. وإلى تعدد وتنوع المهارات والوظائف والأعمال، التي تحوطته وتحوطها، فكان فيها جميعا مثل مرقص الكوبرا: في تهيبه لها، وفي حذره منها، وفي دوره معها. وكل ذلك، إنما ينهض على الرشاقة، ولو أنه يحتاج أيضا لأمور كثيرة غيرها.
لست ممن أدمن قراءة الروايات، سحابة عمري، لأنني كنت في شغل عنها، لا أكثر ولا أقل. خطفني الشعر إلى محبسه، فمكثت معه، ووقفت إلى بابه صنوبرة تحرسه: حفظا ومراجعة ومعاودة ونقدا. غير أني، كنت ممن يعجب، بالقصص التراثي المتصل به. فرواياته في مظان الكتب، كانت تصل الشعر الفني، بالنثر الفني، وهذا وحده، كان يجعلني أترنم بالقصص العربي وبالنثر الفني. وقد عاودتني مجوعة غريتا بقديمي، وجعلتني، أتابعها بشوق، حتى الصفحة المائة منها. حتى السطر الأخير. حتى الثمالة. حتى الرشفة الأخيرة. حتى “الشفة” الأخيرة. نستمع للعطروني قاصا في “غريتا”:
” غريتا. يا غريتا، أتداعى وتتداعى الذكريات، كنسائم ملونة. فعند أول نائبة تتحول الحياة كلها، إلى حمار أعرج.” ثم يتابع قائلا: “أنت تعلمين أنني لم أعرف إمرأة قبلك… ولا بعدك. وأنني حملت كل تقاليدي وتراثي معي. في سلوكي وتخيلي، عندما ذهبت، كي أكمل دراستي في بلدك.”(ص7).
أود أن أتحدث هنا، عن رشاقة القاص، ولو أن هذة الرشاقة مما يعول عليها في نجاح القص القصير، فما بالك في القصة القصيرة. فقد وضعنا فورا أمام “غريتا”، وجعلنا نتعرف عليها بالجملة، منذ السطور الأولى للقصة. غريتا الأجنبية. زميلة الدراسة. تلك التي يعاوده الحنين لها، من خلال الذكريات. رشاقة مؤلف “غريتا” مشهودة له في حياته المهنية كلها. ومباشرته الرشيقة في الصياغة و في التأليف، لمما يعكس التلقائية التي يعتمد عليها أسلوبا، حين يكون في جلسات التعارف: يدع صاحبه يعرفه من إنفراجات الأسارير. ومن إنبساط الوجه. من الإقتضاب في الكلام. ومن نسمة الكف. فلا داعي للغوص في الأعماق، حتى تعرف إلياس العطروني، أو حتى تتعرف إلى “غريتا”. لأن كل ذلك كان قد بسطه لك القاص، في السطور الأولى، ليجعلك تقرأ الموضوع من عنوانه.
في أقصوصته، “زمن الغريب”، يقول العطروني:
“خلال أسبوع حصل كل هذا كيف تجمعت عناصره لا أدري! أحيانا يبدو القدر على سوريالية مفرطة…” ثم يتابع قائلا: قبل “كل هذا”، كنت أمارس هوايتي في مراقبة البشر. في سعيهم. إن من خلف زجاج مقهى “المودكا”، بين الرشفة والرشفة، أو من على شرفة منزل الطابق العاشر الذي لم أفكر يوم إمتلكته، إن إسرائيل سوف تقصف محطة الجمهور، في يوم ما وتعدم الكهرباء.. وتجعل لهاثي عند وصولي إلى بابه، وكأنني على باب مخدع نعومي كامبل”. (ص33-34).
فقد أثرى القاص أقصوصته الصغيرة، من خلال رشاقته المعهودة، بالتواريخ وبأزمنتها. وبالأمكنة وبالدول. وبالوظيفة. وبالطاقات النفسية. جعلها كلها في خدمة شخصيته وخدمة أنفاسه الكتابية. فعرفنا به، بنفسه،منذ السطور الأولى. ولم يقل لنا هذا أنا: إلياس العطروني، أكتب نفسي بنفسي. فهذة الرشاقة المعهودة في نص القاص وفي جمله، وفي أنفاسه كقاص مكتمل الشخصية، تدفعك لتتبعه في حركته. فتقف وتتأمل، حيث يغرز عصاه. ثم تستأنف إلتقاط أنفاسك، بعد أن يلتقط أنفاسه، لتقف على جملة القول الذي يريد أيصاله لك. فهواية الشخصية، هي وظيفته. والمودكا، حيزه. والمنزل بيته. وأسرائيل مروعته. ومحطةالجمهور، نعمة الرفاهية بالكهرباء التي إفتقدها بسبب العدوانية، والإعتداء على الإنسانية المطلقة. هذا التحشيد، لا تشعر به وأنت تتابع العطروني، لرشاقته وخفته، مثل جسة رشيقة لأخذ عينة، وتقديمها للقارئ، حتى يكبرها بمجهره الشخصي. نستمع إليه يقول في مكان آخر، من أقصوصة أخرى بعنوان “كرنفال”:
الأقدام تتزاحم من حولي. أحذية كثيرة. كلها تلمع. تتحرك كالأطواد. فكرت أن الأمان هو في الإلتصاق بالجدار، فألتصقت. وصرت أدب بمحاذاته مجذوبا بقوة ما، إلى حيث هو. ولا صوت لوقع قوائمي على البلاط البارق. وصلت إلى قاعة فسيحة. في وسطها طاولة تتسع لجلوس أربعين. بدت كالمغارة. القاعة كلها بدت كالمغارة. وكان إثنان يتهامسان، وحدهما في القاعة- المغارة. تسلقت قائم الطاولة. وصرت تحت متكأ أكواعهما، في الجهة الأخرى من الخشب”( ص71).
هذة الرشاقة الأدبية، فرق بها إلياس العطروني، عن غيره. تلك إذا، علامته الفارقة في فن الرواية وفي فن الأقصوصة على حد سواء. ومن خلالها يمكن للناقد الأدبي أن يتعرف أكثر من غيره، على نوايا الأديب من جهة، وعلى خفة روحه من جهة أخرى. فيتابعه لا ب”قراءة التسالي”، وإنما بقراءة الدارس الذي يريد الوصول إلى أهدافه، إن من حيث زمانية الأدب، أو من حيث مكانيته. فيسهل عليه التقديم والتقويم. نستمع للأديب القاص والروائي إلياس العطروني، يقول، في أقصوصته “زنى”:
إمرأة على السرير تغطي كامل جسدها ووجهها. والرجل منتصب وسط الغرفة ، وهو جاحظ العينين منفوش الشعر، مستنفر القسمات ويكرر بصوت مرتفع وكأنه فقد السيطرة عليه.
الله أكبر… يا سبحان الله، يا سبحان الله.
ما بك!
مابي؟ الله أكبر… وكأنه سبحانه لا يريد أن أزني. أنظر… إنها زوجتي الست زبيدة.” (ص97). حقا، إن الرشاقة الأدبية عند العطروني، إنما هي صفة وسمت أسلوبه في الكتابة الروائية والقصصية. يأخذك بلا مقدمات إلى مزوده. يدعك تسرع إن أردت. وتتمهل إن أردت. وطبق الحلوى تحت ناظريك، لا يزال يحافظ على طزاجته، رغم مرور الزمن عليه. يلدع طرف اللسان لعذوبته وسخونته. كيف لا؟ أليس الطاهي، هو العطروني نفسه: ملك الرشاقة الأدبية في شخصه، وفي قصه، وفي أسلوبه، وفي جملته.