( …هنا الجزء الثالث والأخير من إحدى قصص كتاب ” رصاصة في الروح ” للكاتبة التونسية سلاف الفقراوي ):
-×-×-×-×-
نظر إلى باقة الورود في حضن أخته.. ازداد تحسّره.. أشار على صديقه أن ينزل ويقطف له غصن من نبات شوكي على جانب الطريق.. لم يطل الانتظار..
تقف سيارة أنيقة بيضاء اللون من نوع المرسيدس يقودها كهل الخمسين تندفع بجانبه ليرحلا معا.. ينطلق وراءها سفيان.. كأتعس رجل استباح الحب استغفاله وبين ضلوعه خيبة آماله..
صمت حزين لفّ العاشق وصديقه وأسف شديد ألمّ بالفتاة على أخيها.. وكأن الصورة تتضح لسفيان.. أيقن أنه كان أبلهاً لأكبر عملية تحايل على رجولته باسم الحب..
أنثى أتقنت حبْكَ دورها جيدا.. تذكر ابنتها ودموع التسوّل في عينيها وهو الذي رقّ لحالها , ودون وعيي منه بكى لبكائها.. حضنها.. قبّلها من رأسها عازما أن يكون لها الأب والراعي في حمايتها.. سقط رأسه بين كتفيه أسفاً عليها.. لم تكن البنت مذنبة.. هي تكوّنت على يد أمها..
يتساءل عن سجنها الذي ادّعت، وعن زوج تصفه بالوحش المخيف في تضييق الخناق عليها.. كم تمّعن في تعذيبها وحبسها هذا الزوج الوحش كلّما تاقت لرؤيته.. هكذا زعمت له؟ ورغم ذلك تمرّدت حبيبته لتسرق لأجله ساعات الحب الأزلي في مراحيض المقاهي…
تقول ألفة:
امرأة ويكبِّلُ الحرّاسُ
أجنحتي
وسجّاني يمنع النور
عن عيني
وربّ لا يزورني نائما
فأعصفُ بالموتِ والقدرِ
وأهتك سترا عنك
يمنعني
وأكفر لأجلك بالحُجبِ
فيزحف لنورك قلبي
وألقيك السلام
يا بحرا خلتُ أنيّ أملكه
غيّرت في عيني الألوان
فهفوت..
يخرج الجميع من صمتهم على ضحكاته الهستيرية.. كان يضحك من غبائه المفرط إذا ظن في شخصه التقصير أمام جلالة عشقها له وتضحياتها الجسيمة.. لم يكن حبها الذي أبدعت رسمه المراحيض وساعات الغرام بين أحضانه إلا لسرقة ماله وجهده وشرفه.. يضمحلّ حجم الغضب ليستحيل إلى حسرة..
تقف السيارة، تنزل “ألفة” لتلِج العمارة وحدها، يتجمّد الحبيب المخدوع وكأنّها تعرف المكان مسبقا، يتبعها الكهل بعد أن أفرغ صندوق السيارة من أكياس تبدو أنّها متطلبات الخلوة الجامحة.. يلتفت سفيان لصديقه ويطلب منه اللّحاق بهما دون جلب انتباههما ليعرف مكان مقامهما.. يخشى عليه صديقه التهوّر.. يطمئنه سفيان..
انتظر مرور ساعة ليفسح لها المجال لرسم فنها الرّخيص، ثم هاتفها: كيف هو حالك الآن حبيبتي؟ تجيبه بآهات تذكّرها وكم ظنّ أنّ الشوق إليه يغلبها.. أحسّ بالتّلف والضياع ولكنه سألها: لماذا تتأوهين هل تتألمين؟ تجيبه: آه.. آه.. آه أحبك.. حينها أدرك أن خداعها له لازمها منذ أن عرفها وأنها تلاعبت به زمنا..
غلبه الحياء بصمت المكان حوله.. وجوم صديقه وحزن أخته زاد في إبرام غباءه.. يخرج من السيارة.. يسرع إلى الأرض فينكب على ركبتيه ليفرغ ما في معدته..
خدعت ألفة نفسها بالتوبة وبالحب.. لازالت تأكل من ثديها.. جشعها للدراهم لا يقهر..
طرق سفيان على باب استغفاله.. فتح الكهل عاري الجسد يغطي نصفه الأسفل بفوطة حمام.. تحادث الرجلان بصوت خافت، ثم سمح له بالدخول..
ألفة عارية مفتوحة الساقين على فراش فسقها.. تريح جسدها بعد جولة مصارعة.. منهوكة القوى.. ينساب عرق اللذة ليغطي كامل جسدها..صدمت لرؤية حبيبها المغفّل الشهم فوق رأسها.. في عينيه نظرة احتقار وعلى شفتيه الامتعاض.. يلتفت سفيان للزبون الضليع قائلا:
– كم ثمنها؟
يجيب الرجل ببساطة:
– خمسون دينارا ليوم كامل وسبع دنانير معلوم التاكسي لتعود وحدها مساء..
تتجمّد الحياة على وجه سفيان وهو يضع الغصن ألشوكي فوق خصرها قائلا:
– الحياة غير المفحوصة لا تستحق العيش…
كذلك قال سقراط.
***
رسالة إلى الراعي عبر الأزمان :
لقد كانوا يعذّبوننا بالعزلة، عزلة خالصة لا يمكن أن تخطر على بال أحد.. لم نتعرّض لأي تعذيب جسدي.. بل أسلمونا ببساطة إلى فراغ مطلق ومن البديهي أن لا شيء في العالم يعذّب النفس البشرية أكثر من الفراغ .
إمضاء: الرعيّة
***
رد الراعي على الرعيّة:
إن الخطر علينا اليوم هو في قوى العالم اليوم التي تحاول أن تستغلّ خوف الإنسان لتسلبه فرديته وروحه..وأن تختزله إلى كتلة عديمة التفكير لإخافته ورشوته.. بإطعامه طعاما لم يكتسبه ومالا سهلا وعديم القيمة لم يعمل من أجله..
إنّ ذلك ما يجب أن نقاومه، إذا كنّا نريد تغيير العالم من أجل سلام الإنسان وأمنه ..
إمضاء: الراعي
شكرا اجريدة الزمان ان احتفت باجزاء من روايتي كل الشكر لطاقم الجريدة محبتي لكم والورد