هل الشعر ضرورة ؟
( الكاتب د. قصيّ الحسين يقرأ في ديوان ” أشجار غير آمنة ” للشاعرة دارين حوماني )
-×-×-×-×-
ليس ديوان الشاعرة دارين حوماني ( أشجار غير آمنة- دار النهضة بيروت2022- 120ص)، هو الذي أشعرني بطرح السؤال: هل الشعر ضرورة. هل الشعر ضروري في حياة الناس والأمم والشعوب. بل هو تساؤل قديم كان يعاودني، كلما وقفت على ديوان شعر قديم أو جديد. وكلما سرت في صحبة شاعر إلى القيعان والسماوات وما بينهما. أو إلى الينابيع. ذلك أن الشعر هو بذرة لسان آدم، كلمة آدم. فكيف لا يذهب الناس، لإستكشاف أصلها في النفوس، وإستطلاع آثارها عليهم، بعد كل هذة المسافة التي قطعتها الكلمة، منذ النزول، منذ الطرد من الجنة، حتى اليوم.
أكثر ما يعذب قارئ الشعر، مشاركته الشاعر، هذا الحقل. حقل الشعر. ولهذا يصير الإنقسام، من المحصلات، حين نجد الشعر ينقسم إلى قسمين: قسم يشبه معلبات الطعام المحفوظة، على حد قول نعيم تلحوق لشوقي بزيع، والآخر من النوع العضوي، الذي له حلاوة وطلاوة، ينعش النفس، وتستسيغه الأبدان. وإلا ما ينفع الشعر، إن لم يهز هذة الأبدان هزا، ويجعلها تترنح لنسائم الأرواح.
تجلت دارين حوماني في ديوانها الأخير هذا، بعد عدد من الدواوين السابقة عليه: ( ١- أكبر من نافذة قطار. ٢- الياطر الحزين. ٣- ملاآات رقيقة في غرفة واحدة. ٤- مقامات الخيبة. ٥- العبور بلا ضوء.). إستطاعت أن تطور تجربتها، وتجعل الشعر ضروريا لها أولا. وتاليا للقارئ اليوم. وللقارئ غدا. هؤلاء إذا ثلاثة قراء. ثلاثة قراء، هم شركاء الشاعرة في حقل الشعر. وكل ينتظر حصته. ويريد أن يأخذها بالكامل. لا يتنازل عن حبة قمح منها.
بهذا المعنى، يتهافت الناس على حقل الشاعر، ليأخذوا حصتهم منه، وليجعلوا منه إرثا ثقافيا وكشفيا، لمن بعدهم. فنرى دارين حوماني تطير فوقنا من وراء البحار، من فضاوات الأمريكيتين، في مهمة لإنقاذ العالم من أشرار ومن غزاة، أساؤوا للناس، حقبات وحقبات. نسمعها تقول:
” أكتبي الشعر أولا
قبل أن تأخذي مقاس ضغطك
قبل تعليم أطفالك الدروس اليومية
وقبل أن تبدئي التفكير بالرؤوس الملفوفة بالسواد…
قريبا ستتوقف الحضارة عن تنشق الشتاء
سنقبع بلا معنى
داخل عالم إلكتروني
يفصل بيننا صحن طائر
ووهم عميق.( ص9).
إذا، أن يذهب الشاعر إلى حقله كل يوم، لحرثه وغرثه، هو أمر ضروري، كما كان في عهده كله، على كل الأرض. لكن المشكلة في ذلك، هي أن ما قد يكون في المواسم، لا يناسب حسابات البيدر. فكثيرا، ما ترى فجوة عميقة بين حساب حقل الشعر، وحساب بيدر الشعر. وعلى القراء أن يتحضروا لدفع التكاليف، ودفع الأثمان، ولكن بشرطين: شرط المحافظة على الحقل. حقل الشعر. وشرط المحافظة على حارثه، الشاعر، عند كل موسم.
حقا، لم تعد هناك تيارات جديدة. الأساليب متشابهة. والعمل على تجنب خسارة الحقل، يجب أن يكون في عمق وعي الشاعر والقارئ معا. فهذة شراكة تاريخية لها سنن ولها قواعد. وفيها عهود مقطوعة منذ كانت الكلمة هي البدء. فتطوير الأدوات، للوصول إلى الإبداع، وبذل الجهود الثقافية المضنية، لترقية لغة الشعر، وترقية رسالته، لمما يتمم رسالة الشاعر ورسالة القارئ، معا على حد سواء. وبذلك أيضا، يتم نمو الشعر. يزدهر حقل الشعر. وهذا ما تنشده حوماني، حين تقول في قصيدتها: (مواجهة أصنام هذة الأرض):
أريد أن أقول شيئا
رأسي مثل رأس طفلة فقدت للتو، أمها
حسنا إذا، أتمنى الموت
لكن بطريقة مهذبة
أريد كسرة خبز من اليد التي فقدتها.
صوت حميم من زمن قديم
في الفناء.( ص39).
كل عام يحمل الشعر موسمه، من حقول الشعراء، ويحمل معه صخبه: شاعر وقارئ يقتتلان من صباح اليوم الأول، حتى صباح اليوم الثاني. ويفيض الشعر على الناس. يفيض الشعر في النفوس. هكذا إذا، تراكم المحصول أيضا للأجيال. هي أيضا هذة الأجيال، تنظر في خزائنها: هل عندها من الشعر؟ وما هي القصائد والدواوين، بل من هم الشعراء، الذين دخلوا المنافسة؟. تقول دارين حوماني، في قصيدتها “الخيبة”:
“يغرينا التخلص من الزمن
حاولنا أن نحب كل ما يفترض أنه منزل
خيبة كونية أمام أنفسنا
رغبة في الإستغناء عن كل الإحتمالات
أريد الله فقط
وحيدا من كل الأديان وتشوهاتها فينا.( ص64).
كالعادة، يتمحور كل شيء عند الشاعر، حول القصيدة. هي النقطة المنتصفة للدائرة التي تضم سائر العناصر. إذ لا يمكن النظر في اللغة وفي الأيقاع وفي الجرس، وفي الإيحاء وفي المشاهد، أو النظر في أي أمر آخر متصل بالإبداع الشعري، منفصلا عن الموضوعات التي تمنح كل هذة العناصر، أسباب وجودها. فالقصائد بدورها، ذات حركة عمودية: بعضها في طوابق سفلى من النفس، وبعضها يصعد تدريجيا مع الوقت، ومنها ما يبقى في حقل الشاعر، لا يصل إلى روح القارئ. مثل ركاب مصعد كهربائي، ينتقل بهم بين الأدوار. ولو أن جميع القصائد تدخل في مهمة صعبة: التنافس والتزاحم على الصعود إلى الواجهة والبقاء فيها، حتى الأجيال الآتية. وهذا ما نجده في قصائد دارين حوماني، نستمع لها تقول في قصيدتها “فقط مطر”:
مؤلف موسيقي
يقدم لنا السكينة مع النبيذ
وفجأة يدير ظهره لنا
فنرى بقع الحزن على ظهره ( ص89).
من الصعب ترتيب القصائد في الديوان، عند الشاعرة حوماني، بحسب أجندة نفسية. أو بحسب أجندة زمنية. أو بحسب تقاليد التصنيف والتبويب للقصائد التي تداولها الشعراء، لأن الشاعرة تضغط كل ذلك في زمن القصيدة نفسها. فتجعل منها وحدة قائمة بذاتها، تتفرد عن غيرها في المقاييس المضطربة لدى النقاد. ولو أنها تتواصل مع القصائد الأخرى في فضاوات الشعر، حيث قصائدها تحلق كسرب من الطير. وتبدو آنئذ الشاعرة رأس الطائر الأول الذي يقود مجموعته، محلقا بها، وهابطا، حتى النفس الأخير. نسمع الشاعرة تقول، في خواتيم ديوانها الأثير:
…”وإن المسافة بين الموت والحياة في داخلك
والحياة التي لا تريدها
بضعة سينتمترات من وعي عميق
بالأشياء والأديان والخنازير البرية
حرر نفسك من الأذى…
هل يمكنك أن تكتب الآن وتحب وتقبل الآخرين
متجاوزا القلق والألم والإنسان.( ص117).
دارين حوماني واحدة من الشعراء التي تغزو حقل الشعر كل صباح، بعصابتين من الفتيان: واحدة من أثرياء الروح في المدينة، والأخرى من الفقراء والذعار والمنكودين، والمشوشين بهموم الدنيا ومشاغلها. تتركهما هناك يتصارعان على زعامة القصيدة. وعلى الحقل: حقل الشعر. لأنها إستنتجت، كما هو باد للعيان في تجربتها الأخيرة: أن الشعر ضرورة. ولذك إفتتحت ديوانها بقولها: “أكتبي الشعر أولا”.!