” الصحراء ”
الحلقة 4 / من سلسلة انعكاس
بقلم الكاتبة والشاعرة د. لارا ملاك
-×-×-×-×-
” الصّحراء” : ( من وحي رواية “ما تبقّى لكم” لغسّان كنفاني )
هذه صحراء تتنفّس، ورغم ذلك ليست قابضةً على الهواء. هي موازيةٌ له، تلتقطه، يلتقطها، يلفظها، تقول له ما يشاء. هي براعة الرّمل، هو جسمها. هي انفتاح الأرض حين شقّت نفسها لتفرغ الهموم من وجه الثّلج. هي انبساطٌ خادعٌ حارّ، وهضباتٌ تشي بالتواءاتٍ مرّت.
لها هامشٌ أم هي الهامش؟ أين متنها؟ قال نصٌّ جافّ. كيف فازت؟ كم كأس رفع فوقها المحاربون قبل أن يهووا عن حصانٍ مائت. هي بُعدٌ لأنّها أبعد من البلاد، لأنّها صقيع البلاد الجافّة. سماءٌ ممدّةٌ توارب الألوان، فيها اخترع طائرٌ ريشَه ومشى كثيرًا حتّى غاب عن الشّمس.
يحمل الفتى ماءه عبئًا ثقيلًا على ظهره، ولا شيء في جيبه. لا شيء، لا فتات يرميه على طرقاتٍ مطمورة. يتسلّق اللّاشيء في عباءته المتروكة، كأنّها ذاكرة. يسير، والأحزان حبّات رملٍ تعلق في أنفه وتحت حاجبين. يطرد أنفه من وجهه. غاب الهواء. توارى الفتى. عالقةٌ تلك الألوان في المحبرة.
الصّحراء تضاجعُ الهواء هنا. من أنجبت بعد كلّ هذه الكتب؟ حبلت بنفسها، أنجبتْ صيفًا لا صيف له. لأنّها رحيلٌ جلّادٌ يطرق الأبواب ليلة العيد، وبقيَ اللّيلُ بلا تائه. أنهكها حملها، فأتت للأرض من دبرها حتّى فضّت وجهها، ونثرتْهُ وعلّقته.
كانت مطلع القصيدة، صارت وحشتَها حين انطلق الفتى. هذه صحراء تحترق، ولا تعلم. لظاها أثر قافلةٍ من صبيٍّ واحد. قافلةٌ تذكر ما هو لها، وتذكر خساراتها على ضفاف ذلك النّهر. قافلةٌ من رجالٍ كثيرين، من شبه طفلٍ وحيدٍ أطلّ على اللّحى فسبقته البواريد.
قال نبيٌّ: لا تجتمع لحيةٌ ووردة.. أين الحقلُ هنا؟ كيف امتدّ الرّمل في عروقه حتّى نبتت على يده عانة؟
شقّت عيناه الطّريق فأوجدته. هذا رصيفٌ أفرطَ في امتداده حتّى ماتَ المشاةُ سيرًا وانتظارًا. هناك على الرّصيف خانه صديقٌ ميت، هنا على الطّريق يحاول ألّا يخون أناه.
الصّحراء كانت تتنفّس، صارت تتنفّس. رحلةٌ لم تبدأ، لكنّها تستعيد الحقيقة، وتصفعها كي لا تتجاهل نفسها حين تمرّ الأقنعة. في الذّاكرة قناعٌ كان وجهًا. سقطَ الوجه، واستقرّ على سرير العابرين المرائين واستكان.
استكانةٌ.. انتكاسة. لغةٌ تقلّب نفسها على الجمر، ولا تنضج، ولا تُطبخ، ولا تشبه أيّ دفءٍ كان.
لا شجرة أعلى من رأسكَ، لا حفرة أصغر من رسغكَ، لا أجزاء تقول لكَ في أيٍّ منها تبقى.
هي مسافةٌ جاهزةٌ تروي نفسها، تمتدّ فيها المواقد حتّى تظنّ أنّ الشّتاء قادمٌ لا محالة، أو أنّك شتاءٌ يمرّ الآن.
يغمض الفتى جفنيه يعضّ الشّمس في شفتيها، يقبل نحوها يقبّل جنباتها، لا يستعر إلّا الخيال. الخوف هنا لا إله له، يسير بلا عكّاز. أين يُدفن الرّجل وهو ذائبٌ من دون بحر، ذاهبٌ كأنّه ملح؟ وإن دُفنّا كيف يحيلنا الرّمل وردةً أو باشقًا أو هواءً؟
كان خلفي ترابٌ يشبهُ الأنبياء، يشبه أجسادهم البائدة على الكتب والسّحر. أوجِزْ بيانَكَ الآن يا فتى، فالحبّ حبٌّ أو سقوطٌ حين نفتح يدينا ويهرب من عناقنا الهواء. يقول الفتى أليس في هذا المدّ الحارّ قطارٌ؟ أو سائسٌ؟ أو وقت؟ أين المحطّات الّتي تُكتَب بالسّاعات وليس بالسّنين؟ أين المحطّات الّتي تقلّ راحلين عاديّين وتفوت المخذولين الخائبين؟ وكيف قد نبني هنا على الرّمل غرفةً، ونحن لم نعتد الجدران مذ هدمتنا الأشياء المقفَلة؟
النّافذة خجل الغرفة من المدى، والبابُ اعترافُها بأنّها غير كافية. لا جدار يكفي للرّكض، أو للرّقص، أو للهرب. لا جدار جديرٌ حتّى بحمل مرآةٍ واحدةٍ إلى الأبد، أو بالإمساك بمسمار. هذا الباب إلهٌ قالت الخطوة الأولى الّتي لم تسمع بعدُ أزيزَ الغيبة.
الصّحراء حبل غسيلٍ أصفر، قد تظنّه لوهلةٍ خريفًا. هي حبلٌ لا يُؤرق ربّات البيوت، فلا تنضج عليها الملابس جديدةً دافئةً، بل تجفّ فيها الأجساد الّتي لا تعرف الوجهة، ولم تقرأ سماء الأقدمين. أخذت تمشي تحته، وهو يعدّ كم مرّة مات. لم يعد يعرف، لم تعد تتّسع. هذا القبول مؤذٍ، كما قبلت الشّمسُ بالغياب حتّى تابت.
أختُه الآن أرضٌ خصبةٌ لليباس، وهو يزرع الأملَ كثيرًا كأنّه يقترض شيئًا من الوجود، ولا يعيده، ولا ينسى ثمنه. عاش يتيمًا، وله أختٌ تستعدّ كلّ يومٍ للرّحيل ولا تفصح بخطوةٍ وحيدة. هما البيتُ الّذي يمتدّ بين الهاجِرة والهجرة، وبين الهجرة والسّقوط. اضمحلّ الوقت بينهما، حتّى فقدت السّاعة جدارًا، ارتمت على جدارٍ أفقيٍّ كأنّها تستريح، وهي فوق الأفق موازٍ جديد.
الصّحراء امتدادٌ يفضح فراغنا حين نفشل في أن نكون هنا وهناك. أيّ غيابٍ فاضحٍ يقطع حبل أفكارنا؟ وأيّ بقاءٍ يشرّدنا؟ هذا الغياب صمتٌ بالجسد، أو سكوتٌ في المرآة. هل سألتَ مرّةً المرآة إن كانت تخاف؟ وإن كانت كذلك فعلًا، فأين؟ ومتى؟ ولمَ؟
كيف تشتعل أصابعُكَ حين تغيب الشّمس، فقط لأنّ يدين هناك ترتعشان. كأنّكَ أشعلتَ نفسَكَ فقط كي تهزأ من صقيعها، أو من كرة الثّلج الّتي لا تذوب في قلبها مهما احتدم الصّيف.
خلف الصّحراء زيتونةٌ، وأمامها تفّاحة، بينهما لا تنفكّ تفكّ التّاء عن الشّجر. شعبُكَ جنينٌ أجهضتْهُ الأيّام في رزنامةٍ حتّى نزف الجدار، فما الّذي تبقّى؟ ومن بقي؟ وأين؟
الصّحراء منفضةٌ كبيرةٌ شاسعةٌ ترمي فيها سجائرَكَ وأنتَ تعتذر إليها. تعتذر ممّا تبقّى حينَ لم يبقَ أحد.
الوحدة حبُّكَ حين شكَوْته، ولو لم تفعلْ لظلّ العشّاقُ أقلّ حيرةً وأكثر غربةً.
تخاطرٌ هو الرّملُ بينكَ وبين نخلةٍ لم تولد بعد. تقول لها، أنا المائتُ الآتي، وأنتِ الحياة الكامنة، أنا المزروع ذابح السّاقية في كبريائها، وأنتِ الزّرع الطّامح إلى الماء.
وقد يكون الرّمل فكرتنا عن النّمل الّذي يستبيحُ الأرض ليرقص، أو عذرنا حين لا نعلمُ من ينام فوق الأرض اليوم، ومن ينام تحتها.
هل ما زلنا نذكر صوتنا حين خفنا للمرّة الأولى؟ وحين طُردنا؟ وحين حبلَ بنا اللّيل؟
هذه الصّحراء نبْتٌ فشِلَ في التّلاقح، فارتمى أمامَكَ طريقًا مفتوحًا. في الهواء تسير وردةٌ نحو الوردة، في الهواء ظلٌّ تظنّ به خلاءً.
هي سجّادةٌ ستدوسُكَ حين تضلُّ نفسَكَ وإن شبرًا واحدًا، وستحوكُكَ متى شددتَ غيمةً كادت تمرّ، بصنارتين. أيادٍ دقيقةٌ حابكةٌ تلومُكَ إن أخطأتَ قدمَكَ. الأيادي المفتوحة دليلُ الخاطين أو الخاطئين.
ما تبقّى لنا هو المسيرُ، فالسّائر لا يصفعه الهواء، ولا تلحقه النّار، ولا تمحو آثاره التّربة، ولا تنسى ساقيتُه الماء. ما تبقّى صحراء لا تنجب الوردَ، لكن تتمدّد نحوه وإن ببطء.