كعكة رئيف
أنت لا تعرف رأس بيروت، لا تعرف الحمرا، لا تعرف شارع الحمرا، ولا شارع الصيداني ولا شارع المقدسي، ولا شارع اللبان وقريطم، وشارع مدام كوري، إذا كنت لا تعرف، رئيف. أعني: رئيف كرم.
إبن بلدة خربة قنافار، في البقاع الغربي، رئيف هذا، صديقي، الذي جاء إلى بيروت لطلب الدراسة، ولم يعرف بعد العودة عنها. لا من حيث أتى ولا إلى أي مكان يرغب. صارت بيروت، بهذة الشوارع والحارات، هي حفافي قريته الغائرة في قلبه، هي مسرحه، بعد أن غادر مسرح قريته الوثني، في كنيسة بلدته.
شخصية مسرحية، وافدة إلى بيروت، إنما هي شخصية رئيف. بدأت تبحث عن الخشبة، منذ وطئت أقدامها بلاط أرصفة بيروت، في وسط المدينة، في الستينيات من القرن العشرين، وراحت تفتش لنفسها، عن دور. راحت تفتش لنفسها عن حلم. راحت تفتش لنفسها عن رحم جديد، يشبه الرحم الذي خرج منه. أو عن لجوء.
وجد الطالب الجامعي رئيف ، الوافد من مسرح قريته، ومن مسرح جوبيتير، ومن مسرح نيحا، ومن مسرح عنجر، ومن مسرح راشيا، مسرحا له في بيروت. أغراه زمن شوشو. أغرته ساحة البرج. أغراه الأوتوماتيك. أغراه مبنى البيضة. أغراه شارع المتنبي، وشارع غورو. أغراه شارع طرابلس والنهر ومار مخايل والأشرفية والسيوفي والجعيتاوي والرميل، وحي السراسقة، وساحة الدباس، واليسوعية ومونو، فحمل على كتفيه بيروت، وأخذ يدور فيها، يراقصها يوميا، كديك قروي منتش، أو سكران، لا فرق، يشمر عن ساقيه كل يوم، ليعتلي مصاطبها، وينفش ريشه فوقها، ويصيح لديكة الأحياء وصيصانها، للإنتباه إلى مسرح بيروت، خشية المسرحيات التي كانت تحاك للبنان في الستينيات..
كانت كليات ومعاهد الجامعة اللبنانية، ملاذ الطلاب اللبنانيين وغير اللبنانيين في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فكان رئيف الطالب القروي الجاد، من أوائل من لاذ بها. وجد في معهد الفنون ضالته. كان فرصته للدراسة، كما يريد أن يدرس. وللفن كما يريد أن يفتتن وأن يفتن. وللتخصص، كما يريد أن يتخصص. وللهوى واللهو والتعبير السياسي، كما كان، يحب ويرغب. بل كما كان يعشق، دون زيادة أو نقصان.
ما كان أحد في الدنيا، يؤثر على شخصية رئيف، طيلة فترة دراسته الجامعية في بيروت، إلا هواه.. فسعى وراء هواه..فما كان يؤاكل إلا عن هوى. وما كان يلابس إلا عن هوى، وما كان يقدم أو يحجم، في جميع أظلته، وفي جميع ظلاله، إلا عن هوى. وهو لايزال على عادته التي خلق عليها إلى اليوم بعد نصف قرن: لا ينطق إلا عن هوى.
قاده هواه المسرحي، لمتابعة تحصيله الجامعي، في ميلانو، وفي روما، وفي باريس، وفي نيويورك، وفي أي مكان، كان يجد في الوصول إليه، كرسيا يجلس عليه شرط أن يكون أمام الخشبة. علق نفسه على خشبة ولازال، على خلاف العادة، وسار بها في أرض آدم، كما آدم، عاريا من كل شيء، إلا من ورقة التين والعصا، وكعكعة عالقة بعصاه، هي له: شبع وري.
عاد رئيف من تجواله على مسارح العالم، إلى مسرحه في بيروت، فوجد أن النار سبقته إلى خشبته. صار رئيف يراقص نيران عاصمته. نيران معشوقته. نيران خشبته. يصنع من ظلال النيران، مسرحا شعبيا له. كان كل يوم: يطفئها بدموعه. يبكي فوقها، حتى تنطفئ، “فما وهنت، وأوهى قرنه الوعل”.
أكثر من ربع قرن بقليل، كان رئيف، يهز جدران قاعات التدريس ويقرعها معا. ويهز أيضاخشباتها، ويخبطها، كأعشى هوازن، او كأعشى هوازن، أو كأعشى هذيل، أمام طلابه. هو الدكتور الجامعي، الذي تفرغ أستاذا للمسرح في معهد الفنون الجميلة، في الجامعة اللبنانية، الذي تخرج منه.
كان رئيف كرم، المسرحي، والأكاديمي، يسير بطلابه المسرحيين، إلى شوارع بيروت. وإلى ساحات بيروت. إلى ساحات وشوارع وأسواق، وأزقة طرابلس. إذن: إلى شوارع وساحات طرابلس. إلى قرية الجاهلية في الشوف، وإلى سائر المدن والقرى اللبنانية؛ يريد أن يغرز رمحه حيث تطأ قدمه من أرض.
رئيف، معزولا عن لقبه، ومعزولا عن قريته، ومعزولا عن أصدقائه، يمكن أن يؤاخي وحدته، ويمكن أن يؤاخي عزلته، ولكنه لا يمكن أن تراه معزولا عن عشيقته الحمرا. إنها حميراء رئيف كرم الأستاذ الجامعي والكاتب المسرحي والباحث والمؤلف والمتقاعد، كسائر من سبقوا زمنهم، فأسرع إليهم، وأخذهم، “أخذ الغريم بذيل ثوب المعسر”. وهو الذي لا يزال كما هو، منذ قدومه طفلا، من مسرح قريته الوثني في خربة قنافار، إلى مسرح بيروت، بل إلى مسارح بيروت ولبنان والعالمين العربي والأجنبي.
الدكتور رئيف كرم، بعذوبة شخصيته المميزة بين أصدقائه. وبصوته المميز بين أصدقائه، يعفر شوارع الحمرا بصوته كل يوم، ويدخر دمعته لإطفاء الحرائق فيها.
أمس، كنا أربعة. في كافيه الحمرا إكسبرس، عند مؤنسنا الأخ عبدالله: نعيم، وإلياس وريما، وأنا. قدم علينا رئيف، متهالكا كعادته. يقدم رجلا ويؤخر أختها، ويقيس المجموعة التي تعود عليها وتعودت عليه، بيديه وعينه. كان الهزل أكثر من الجد، حين طلبت منه ريما كعكعة. فإلتف على عقبيه، كرتل من مجنزرات صدام حسين، تعود عن غزو الكويت، وأسرع إلى مدخل مستشفى الجامعة. عاد بأربع كعكات بيروتية. علقها بأذاننا. إمعانا في الهزل. وجثا ك”مايسترو”، أو ك”مهرج” يضحك علينا. فنضحك منا، أكثر مما نضحك منه. والعكعة في أذن كل منا تهتز… تهتز…