خربة الشعر
الشعر ميزان الحرارة، في أية بلاد من بلدان العالم. بل في أي وطن الأوطان. نتحسس من الشعراء في البلاد، المزاج الذي يسود، بين الناس، وبين أهل السلطة والسلطان. نتحسس منهم، ومن خلال قصائدهم ودواوينهم، وكتاباتهم ومواقفهم، جميع القضايا والمسائل التي تشغل الناس. نستطيع من خلال الشعر، أن نستطلع طالع البلاد. نستطيع من خلال الشعراء، أن نرصد في الجملة الشاردة، وفي القصيدة الشاردة، وفي الديوان الشارد، جميع الغيوم، جميع النسائم. وأن نحصي، جميع الأنفاس.
الشعر قطار يومي، يقوده الشاعر بالناس، إلى المحطات الأساس. فلا يتخلف، ولا يتأفف، ولا يتردد، ولا يستعجل، ولا يؤجل. كل صباح يخرج بالناس، إلى آمالهم. إلى طموحاتهم، إلى حاجاتهم، إلى مشاغلهم وإهتماماتهم. يقف مع الصغير. يقف على الكبير، يتفحص البلاد، بعين الشعر. بعدسة الشعر. بأنفاس الشعر. يتحسس ويتلمس الأوجاع، كما الطبيب. ولا يتأخر عن الكشف والوصف والمعالجة. لأن ذلك من صلب الشعر. لأن ذلك، هو أصل الشعر. ينقل بعناية فائقة، مسؤولة ومدروسة، جميع حمولاته من الأوجاع، على أنواعها، إلى قطار الشعر، ويسير به إلى البوابات التي حددها، وفي الأوقات التي حددها، في مهمةإستباقية. في مهمة إستشرافية.
حين نقف على بلد من البلدان، إنما نسأل عن عدد الشعراء فيها، من الناجين، ومن الذين ذهبوا، ونجت قصائدهم. شغلت الناس. نسأل عن هذة الكوكبة من الشعراء، الذين وقفوا حياتهم، حراسا على أبواب الحياة. تمر بهم الأجيال، جيلا بعد جيل. وتمر بهم الدهور، دهرا بعد دهر. وتمر بهم الأزمات والنكبات والرياح والعواصف، والحرائق. يضربهم الطوفان. وتحل بينهم المجاعات، والحروب، وجميع أنواع هذة السلالات. فترى الشعراء، يهبون إليها، ولا يتخلفون، لا في رصدها، ولا في مواجهتها. فهؤلاء هم إذن الشعراء. هؤلاء إذن عواميد البلاد.
في لبنان، كان للشعراء قطار من الشعر عظيم، يجوب البلاد. يجوب الإقليم. يجوب الأرض. ويستطلع يوميا براداراته، خلف البحار. كان يغوص في أعماق المحيطات. كان الشعراء يقومون برحلات دائمة، بين الأمصار. وأينما حطوا، كانوا ينزلون حمولتهم من الشعر في الأسواق. كان شعراء المهاجر، هم من أوائل الشعراء، الذين حملوا قضاياهم في قطار الشعر، وذهبوا بها إلى أقصى الأرض، يبسطون قضاياهم للناس، للحكام، للمحكمين، حتى صاروا أعظم كوكبة من الشعر، أين منها كوكب الشمس.
منذ نصف قرن، توقف قطار الشعر في لبنان. تعطلت عرباته. تعطلت خطوطه. تلفت سككه. إهترأت. أكلها الصدأ. سطا عليها الجلاوزة واللصوص. أصيبت بأضرار جسيمة جراء حروب، تجر الحروب. جراء نكبات تجر النكبات. وكانت الرياح والعواصف تشتد. فإنزاح الشعر عن سكته. وتخلف الشعراء، عن الوصول إلى المحطات، لقيادة القطار. وصارت حملة الشعر تهترئ يوما بعد يوم. تبع الشعر البلاد في الخراب. صار العالم كله، في سينما الشعر. وفي مهرجاناته، وفي أسواقه. وفي مواسمه. وإنزوى الشعر في لبنان، في خرائبه. صار قطاره، خربة الشعر.
والسؤال اليوم، من أزاح الشعر عن سكته. من أسكت صوت الشعراء. من أفسد حمولة القطار. بل كيف فسدت حمولته، بعد إزدهارها، لأزمان وأزمان.
شعراء لبنان، يعيشون في خرائب الشعر القديمة. أصابت قطارهم الأضرار والأعطال، جراء الزلازل التي أصابت سككه ومحطاته، فخربتها، وأخرجت القطارات عن سككها، وحطمتها ، وهي في مكانها.
صار الشاعر في لبنان، يخرج بأثوابه القديمة من محطات الشعر المخربة. لم يعد رائدا. لم يعد قائدا. لم يعد ملكا. ضربت الزلازل عربته وأخرجتها عن سكتها. فتراه يخرج منها بعريه. وبأمتعة من الشعر مهللة. بأثوابه البالية. فلم تعد له قيافته. ولم يعد له بعد نصيب، ولو زهيد من القيافة.
شعراء لبنان، لم تعد لهم صروحهم من الشعر. صاروا يخرجون إلى العالم، من خرائب الشعر، من دكاكينه، من زوايا التقارير. من زوايا الصحافة.
ضربت لبنان العاصفة فأضرت به. وأضرت معه قطار الشعر. أزاحته عن سكته. فاستقل الشاعر عربة من عرباته المهجورة، وصار يخرج على الناس، بأمتعة قديمة. بأشعار عتيقة. بحمولة فاسدة مهجورة.
الشعراء في لبنان اليوم، صورة عن وطن خرب، من جميع نواحيه. صورة عن قطار مهجور منذ سنين. الشعراء اليوم في لبنان، إنزاحوا عن سكة الشعر، فنزلوا منه، إلى خرائبه، يختبئون في عرباته الخربة المهجورة. ولا يجرؤون على تصدر المجتمعات. ولا على الجلوس، كملوك الشمس.