” السلفي ” الثقافي
لا يتوانى الناس، في جميع المجتمعات، وفي كل المناسبات، عن المبادرة بالسلفي الثقافي، لأمرين: النرجسية، والتقدم من الآخرين لعناق النرجسية. هذا هو لب المسألة في السلفي الثقافي الذي يعشقونه ويتداولونه ويقدمونه أيقونات أيقونات، إمعانا في التمظهر، وتقديم الذات متكئة على كتف ما، لأنها تخشى على نفسها، من التهاوي والسقوط. أو من الضياع والنسيان، أو من الإهمال والنكران.
السلفي الثقافي، يعيد لصاحبه برهة الثبات. برهة التثبت من الحضور. برهة الإرتكاز إلى محمول عظيم و هام، طلبا للتألق الثقافي والنقدي والمعرفي. طلبا للتألق بالإختصاص، وبالخصوصية. طلبا للتألق بالعلم وبالفكر وبالفلسفة. طلبا للتألق بحرا للعلوم كافة، وللفنون كافة وللآداب كافة. طلبا للتألق أو للتسلق، على التاريخ وعلى الجغرافيا، وعلى الأجرام. طلبا للتألق أو للتسلق على جميع الأكتاف: من كتف الزعيم، إلى كتف التاريخ إلى كتف البحار إلى كتف السماوات والأجرام، والوديان وأعماق البحار. طلبا للتألق والتسلق، في جميع الصناعات والفنون.
قبل وجود سلفي الكاميرا، في الهاتف النقال أو المحمول، كان السلفي الثقافي معمما بين الناس. جاءت الكاميرا في الهاتف النقال/ المحمول، لتعكسه في المادة. تقرن الوجه أو الوجوه، أو الشخص، أو الأشخاص، بمن وبما يعشق، أو يعشقون. سلفي الهاتف المحمول، يذهب لتثبيت الصورة، متآخية أو متوارية أو متلاصقة، أو مندمجة أو متكئة مع من وما تحب في الزمن.
سلفي الهاتف، يحفظ ديمومة الصورة المعشقة بالآخر، وبالآخرين. يحفظ سيولتها في الزمن . تسبح بين المجرات معشقة، للشأن نفسه. خشية الإهتزاز والضياع. خشية الإزالة والزوال. لأن الزوال، هو الغياب الدائم هو الموت. سلفي الصورة المعشقة، يستبق الزوال/ الموت. يشن على الزوال، على الموت حربا إستباقية للثبات في الزمن ومؤانسته، للخلود.
السلفي، أو الصورة المعشقة بالآخر، بالآخرين، بالأشياء، قديمة في النقوش الصخرية وفي الأحافير على الحجارة والرمال. قديمة في الخطوط والمخطوطات وفي الرسوم وفي الألوان. فكانت في الكهوف، مثلما صارت على القصور والقلاع والمدافن وشواهد القبور.
السلفي الثقافي، واكبت السلفي بالصورة المادية المعروفة. ولدت معها. وعاشت معها. وتطورت معها. وجرت معها في سياق واحد، أو في سياقين متوازيين، في كل العصور.
ظهر الشاعر مع قرينه الجني، في السلفي الثقافي، الذي قدمه لنا الرواة والنقاد والكتاب والمدونون والمؤرخون. أخذوا صورة سلفي لإمرئ القيس وجواده. تماما مثلما صور نفسه على صهوة جواده، في شريط فيديو. نسمعه يقول:
مكر مفر مقبل مدبر معا/ كجلمود صخر حطه السيل من عل.
هذة الصورة، من روائع مشاهد السلفي بالفيديو الثقافي. وذكر الرواة أن الشاعر الجاهلي لبيد، وهو من أصحاب المعلقات، كان مؤنس الذئب. مجالسه. مساهره. صنعوا له صورة سلفي مع الذئب. وصنع لبيد لنفسه مع الذئب فيديو سلفي، من المساء حتى أوساط الليل.
جميع أقران الشعراء من الجن، في العصر الجاهلي، أخذوا صورة سلفي، أمام مغارتهم المميزة، التي آوتهم، في وادي عبقر، قبل أن يذهبوا إلى الشعراء ويأخذوا معهم صورة سلفي، وهم يلقنونهم الشعر.
“السلفي الثقافي”، كان واسع الإنتشار في قصور الملوك والأمراء. كان الملك أو الأمير أو الوزير أو القائد، يأخذ صورة سلفي مع الأدباء ومع الحريم ومع الجواري، ومع القادة ومع الغلمان. وربما إختص شاعرا، أو غلاما أو جارية، بصورة سلفي معه.
كان السلفي الثقافي واسع الإنتشار في العصور القديمة. جميع الشعراء في تلك العصور ، ظهر لهم سلفي ثقافي، مع الملوك والأمراء والقادة ، ومع زملائهم من الشعراء والأدباء والنحويين، في البلاطات وفي الحلقات وفي الأندية وفي المجالس. فهل ننسى سلفي المتنبي وسيف الدولة. وسلفي المتنبي وكافور. وسلفي أبي تمام والمتوكل وسلفي البحتري والمتوكل.
السلفي الثقافي، كانت له صورة شهيرة، أخذت لأبي العباس النحوي، مع العلماء والفقهاء واللغويين في مجالس العلم بفارس. حضر مجالسهم وأخذ سلفي ثقافي معهم، حين وقف شيخ من شيوخ اللغة في فارس، فأنبهه أبو العباس، أن ألفاظ اللغات تفقه معانيها من حروفها. سأله أحد العلماء بفارس، فقال لأبي علي الفارسي: إذن، ما مسمى إذغاغ؟ فرد عليه: “أجد فيه يبسا شديدا وأراه الحجر.” “فإذا هو هي، وإذا هي هو”.
جميع الأدباء والشعراء كانوا يأخذون سلفي ثقافي مع إخوانهم في بقاع المعمورة. كانوا يرتحلون لأجلها. كانوا يشدون الرحال. و كانوا يركبون البحار، لأخذ سلفي ثقافي مع علماء الشعر ومع علماء اللغة ومع علماء الأدب. كان الأطباء و العشابون، ومن بينهم إبن البيطار، صاحب كتاب المفردات، في الأندلس يرحلون إلى بلاد المغرب وإلى بلاد الشام، وإلى جزر البحر المتوسط لإلتقاط سلفي ثقافي مع عشبة تداوي مرضاهم، ويمسدون بها جروحهم، فتضعهم على دروب الشفاء. وتضع العشاب في مصاف العلماء الذين لهم سلفي ثقافي وثائقي مع الأعشاب.
السلفي الثقافي، كان تجربة القدماء لأجل الثبات في الزمان. شكل قرينة لهم على نجاحهم، في علومهم وأشعارهم وآدابهم. كان السلفي الثقافي حقا شاهدا على براعاتهم. وقف “بشكست” النحوي لأخذ صورة سلفي مع الخليفة الأموي، عبد الملك بن مروان، ومع فتيان أمية. دعاهم عبد الملك للتغامز على “بشكست”: فبادر أحدهم يكسر في اللغة. والآخر يمزق نسيجها. “فوقف بشكست، وحمل وعاء الحساء، وغمس فيها ذقنه، وقال لها: “ذوقي هذا جزاؤك في مجالسة الأنذال”.
عاش الناس على السلفي الثقافي في الماضي، يحسنون شروط الأدب، ويبسطون القواعد، ويؤنسون المجالس، ويؤسسون لكل غال ونفيس، في حياة الأمم والشعوب.
أما اليوم، فنحن نرى السلفي الثقافي، ينحدر إلى أدنى مستوياته: السلفي الثقافي مع الزعيم. و السلفي الثقافي مع اللصوص. والسلفي الثقافي مع القتلة والمجرمين. والسلفي الثقافي مع المتآمرين. والسلفي الثقافي في المعسكرات وفي الحشود وفي التحشيد. والسلفي الثقافي مع الحسناوات.
إنزياح السلفي الثقافي عن معناه القديم، جعله يقع مع تطور الهاتف المحمول، في التعبئة الضارة. وفي التحشيد القاتل وفي النفعية الرخيصة. صار أحدهم يأخذ سلفي مع الزعيم ويجعلها “لوغو” له، على هاتفه. يجعلها “أيقونة” يعلقها في داره، يجعلها “إيموجي” له، يستعملها رسالة أو خطابا أو شيفرة أو فزاعة، أو إضافة لشخصيته.
السلفي الثقافي، في عصرنا اليوم، إضافة ضئيلة إلى ضئيل. لتعظيم الذات، إمعانا في النرجسية، وفي التقدم من الآخرين بإحدى صور العظمة المتوهمة. تماما كما قال الشاعر: القاب مملكة في غير موضعها/كالهر يحكي إنتفاخا صولةالأسد”.
السلفي الثقافي كثير الشيوع بين أصحابه اليوم. يستدعون العظماء الراحلين في أحاديثهم. يقولون على ألسنتهم الكذب والبهتان. يكثرون من الإستشهاد بهم، ظنا منهم، أنهم يصيرون كبارا في عيون محدثيهم. فيكشفهم جهلم بعلوم هؤلاء الشخصيات، وبمواقفهم وبأزمنتهم ، فيصيرون سخرية المجالس.
السلفي الثقافي، مقصلة الدعي، مقتلة الأدعياء. فكثرة الإستشهاد بالعظام، لا تحيك لندي المجالس، ولا تجعل له، مرتبة عظيمة. ولا ترتب له موقعا عظيما. فكم من دعي، إتخذ السلفي الثقافي سلما له للإرتقاء، فما أن تسلق درجة أو درجتين، حتى هوى كالبطة العرجاء.