صدر حديثا عن دار ” أزمنة ” في الأردن ديوان الشاعرة الجزائرية المقيمة في فرنسا لويزة ناظور الذي حمل عنوان ” وهل يرقد الموج ؟ ” .
موقع ” ميزان الزمان” الأدبي في بيروت إذ يبارك للشاعرة لويزة ديوانها الجديد ولدار ” أزمنة ” ورئيسه الدكتور يوسف ربابعة ينشر نماذج من قصائد الديوان والمقدمة التي كتبها له المستعرب والشاعر الفرنسي البارز أندريه ميكيل .
مقتطفات من الديوان :
-×-×-×-×-
في حَضْرَةِ المـَوْجْ
يُوقِظُ مَضْجَعي أَرَقٌ
يُبـرحُ بِيَ الوَجْدُ
حِينَ يُناجِيني مَوْجُكَ العَلِــيل
يُشرَّدُ نَوْمِي
وأَنْتَ تَجْتاحُ مَنافِذَ الجِنانْ…
لَيْلٌ يُنادي إلى التَّرْحالْ!
تَرَدُّداتُ مَوْجِكَ
تُرَتِّبُ نَبْضَ القَلْبِ
تَزيدُهُ احْتِمالاتِ العَيشِ
فأَرْفَعُ قُدورَ الكُهولَةِ
مِنْ جَدِيد
أَتَصَفَّحُ وَجْهَ البَحْرِ
وهُوَ يُخاطِبُ الأَرْبَعينْ
أُرَتِّبُ خَضْبَ شَفَتَايَ
أضْفُرُ خُصلةً مِنْ شَعْري
وَقَدْ تَيَمَّمَتْ بِشَمْسِ العَشِيَّةْ
أَتَولَّى مَراسِيمَ الطِّفْلَةِ
الخَالِدَةِ
الضَّحُوكَةِ
البَشُوشَةِ الـمُـشاكِسَةْ…
وعلى أَرْجُوحَةِ نَسِيمٍ عَلِيلْ
أَغْرِفُ من نَغَمِ الخُلُودِ
وبَيْنَ كَفَّيْ مَوْجِكَ
والذِّكْرَياتِ الَّتي تَذُوبُ
في حَفْنَةِ مِنْدِيل
أَبْحَثُ عَنْ بُوصَلَةٍ
تَأْخُذُ بِيَدِي
صَوْبَ مَشارِبِ الحُلُمِ
أَبْحَثُ عَنْ قِبْلَةٍ
تَسْجُدُ لها جَمِيعُ القُلُوبْ
وفِيهَا
تَخْتَصِرُ فَضاءَاتِ الكَوْنِ،
أَبْحَثُ عَنْ مَصَبِّ اللَّهْفَةِ
في مُحِيطِ الـمُـعْجِزاتْ…
لَمْ أَعُدْ أَرَى
إِلَّاكَ وَالقَمَرْ
وقُبْلَةَ الـمَـخَاضِ الأَوَّلْ!
قصيدة ” ولَيْتَ الضَّمِيرَ أَخْرَسُ! ”
ضَجِيجٌ
زَحْمَةٌ تَعُجُّ في رَأْسِي
دَوْخَةٌ
مَنْ عَدَمِ اتِّزانِ الفُصُولِ
تُرْهِقُنِي…!
الشُّمُوسُ كُلُّها انْصَرَفَتْ
تُخْمَدُ في بِركَةِ لَيْلٍ
صَدَّ عَنْها القَمَرْ
الظَّلاَمُ الحَالِكُ يَنْسَكِبُ
على خارِطَةِ عالَمٍ
تآكَلَتْ عَلَيْهِ حُرُوبُ التُّعَسَاءْ
وهذَا مَوْجٌ صاخِبٌ
يُطارِدُنِي هارِبًا
مِنْ أَقْصَى البـِحارِ العَكِرَةْ
يَسْتَنْجِدُ بِي غَضَبًا…
زَحْمَةُ الشَّوَارعِ كُلُّها واقِفَةٌ
أَمامَ الضَّوءِ الأحمرَ
يَصُدُّ دُخُولَ النَّازِحِينَ
عَلَى أَبْوابِ أُورُوبا الهَرِمَةْ
يَسْتَوْقِفُنا
إِلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمّى…
زَحْمَةٌ تَعُجُّ في رَأْسِي
دَوْخَةٌ
مِنْ عَدَمِ اتِّزانِ الفُصُولِ
تُرْهِقُنِي…!
يا لَقُبْحِ الصَّبِيحَةِ!
حِينَمَا
أَرْتَشِفُ قَهْوَتِي
عَلَى شُرْفَةِ التِّلْفَازِ
والـمُـذِيعَةُ في كَامِلِ رَوْنَقِهَا
تَقْصِفُنِي بِشَتَّى أَنْواعِ النَّشْراتْ
تَتَرَضَّبُ بِهَا شِفَاهُها “العَكْرِيَةِ”
الأَشْبَهُ بِدَمِ الضَّحيَةِ
وهي تَخْمُدُ في آخِرِ السَّكَراتْ!
الصَّوْتُ الشَّجِيُّ
يَنْشُزُ بِآخِرِ الأَخْبَارِ
وتَفاصِيلَ مُسْتَجَدَّةٍ
تُفِيدُنا:
كَيْفَ انْتَهَتْ رِحْلَتُ الطِّفْلِ
الخَامِدِ على شَاطِـئِ الفَنَاءْ…
يا لَقُبْحِ الصَّبِيحَةْ…!
يا لقُبْحِ الصّبِيحَةِ
حِينَما
أمْتَطِي الـمِتْرُو
أَجُسُّ نَبْضَ باريْسَ
في شَرايِينِ أنْفاقِها
وحِينَما
أفْتَحُ نَوافِذَ الجَرِيدَةِ
عَلَى عَالَمٍ
تَكَالَبَتْ عَلَيْهِ حُرُوبُ التُّعَسَاءْ
يا لَقُبْحِ المـَسَاءْ!
حِينَما اعُودُ أَدْراجِي مُهَرْوِلَةً
أَغْتَنِمُ الجَرِيدَةَ الـمُهْمَلَةَ
عَلَى طَرَفِ مَقْعَدِ الـمِتْرو الـمُرْتَجلْ
الجَرِيدَةُ…!
كَعادَتِهَا تُجْدِرُ التَّذْكِيرَ
بِأَنَّ حُرُوبَ التُّعَساءِ لَمْ تُحْسَمْ!
ضَجِيجٌ…
زَحْمَةٌ تَعُجُّ في رَأْسِي
دَوْخَةٌ
مِنْ عَدَمِ اتِّزانِ الفُصُولِ تُرْهِقُنِي
مَوْجٌ صَاخِبٌ
يُطارِدُني هارِبًا
مِنْ أَقْصَى البـِحَارِ العَكِرَةْ
يَسْتَنْجِدُ بِي قَهْراً…
يا لَيْتَ الضَّمِيرَ أَخْرَسْ!
ويا لَيْتَ رَهَفَ الاِحْسَاسِ
عَلَيْنَا…
بِجُودِهِ يبْخَسْ!
كلمة التقديم كتبها المستشرق الفرنسي الشاعر أندريه ميكيل :
هنا نص مقدمة الشاعر الفرنسي آندريه ميكيل لديوان “وهل يرقد الموج” للشاعرة لويزة ناظور، عن دار أزمنة الأردنية الصادر عام 2021 :
لستُ أدري من قال (ولا أعرِف إنْ قالَه أحدٌ أصلاً) إنّما الشِّعرُ رِهانٌ مُطلَق: أَلا يحلُم، كأيِّ فنٍّ من الفنون، بمواجهة العالَم المحسوس، واتِّخاذِه موضوعاً، لا بل جعلِه المادة ذاتها، لموضوع آخر يسمى البحث عن المطلق، عالم يتتبعه الشعر من خلال الكلمات؟
ليست هذه هي المجموعة الشعرية الأولى للويزة ناظور، لكنّ المَسار الذي سلكتْهُ فُتِح من جديدٍ هنا في رحلةٍ سوف تُثريها اِكتشافاتٌ أُخرى. إنّها امرأة تلك التي تُرشِدنا، امرأة مولودة في فرنسا وتعيش فيها، لكنها قضت قِسطاً كبيرًا من حياتها في الجزائر، كل ذلك في فضاءين رئيسيين: فضاء الشفاهية، ونغمات الأجداد في بلاد القبائل، ولكنّه توسع لكي يستدعي العالم كله من أجل شهادةٍ قِزامُها الآمال والخيبات، من ناحية، الكلام المكتوب، في الجزائر أو في فرنسا، فيما وراء بحر يوقِّع، بإرادة الرجال وحدَها، مستقبلاً واعِداً أو مُحْبَطاً.
هكذا يُرى كُلُّ شيء على جانبَي الموجة المُعلَنة مع عنوان الديوان، حُطامٌ هنا، واستتاب سلامٍ هُناك. كنتُ أتحدَّث توّاً عن الإيمان: عندما تظهر رسالة الانسجام والحِكمة التي يُمليها القرآن، بوضوح أو بين السُّطور، يقوم ضِدَّها شبح الاضطرابات، والمدينة التي تُفاقِمُها. لكنَّ ثمّة خيباتٍ أُخرى: عندما تتغنّى امرأةٌ بِحُبِّها، يُعارِضها الزّمن بالإنهاك، تمهيداً لخيبة الأمل، لا بل للخيانة. وحين تُبارِكُ أُمٌّ مُتألِّقة قُدومَ مولودها الجديد إلى عالَم الرجال، سُرعان ما ترتعِد أمام الفوضى التي قد يُثيرها هؤلاء الرِّجال أنفسُهم. وحينما تستحضِر الجزائر، بلدُها الجميل، كما تقول، إنّما تستحضِرها لكي تسألها عن حاضرٍ غير أكيد.
ما المكان الذي يبقى للمُترجِم المُقتنِع ـ والذي تتعاظم قناعته بالمِران ـ بالنتيجة غير الكاملة؟ فليس المقصود معنىً يُعبَّر عنه وحسب، بل المقصود دراسة كلّ شيء تحتفِظ به اللُّغة، في بُناها، وتداعياتها، وفي تاريخها ذاتِه الذي هو جزء منها. ها هو تَحدٍّ آخر أمام المُترجِم: يعيش كلُّ إنسانٍ المُغامَرة بحسب مسارِه الخاصّ، وتجربته المُتميِّزة، وغير القابلة للاختزال. أمّا تجربة لويزة ناظور فتصدِم، منذ البداية، من خلال ملمَحَين مُتناقِضَين للوهلة الأولى، ولا شيء يربطهما إلّا المَوهِبَة: تقسيم مُخفَض إلى الحدّ الأدنى الذي لا غِنى عنه حتى في علامات الترقيم، وتنهُّدات، وصرخاتٍ أحياناً، وباختصار، ثمة قلبٌ يكتُب بارتعاشات مشاعرها، لكنّ هذا كلُّه في نفَسٍ مُتواصِل، على طريقة هذه الموجة التي تعود صورتُها هنا وهناك، نفَس يستعيد، بطريقته كما بلغته، نفس التقاليد العربية الكلاسيكية حول هذه الموضوعات التي لا تنفَد التي هي الحُبّ، والموت، والآخِرَة.
لقد قلت إنّها كلاسيكية، لكنّها بِنتُ زمانها أيضاً، في عصرٍ يتطلّع إلى الانفتاح دائماً فيما وراء شاشة المَخاوِف، والتشنّج، والشكوك، وبعبارة واحدة: شاشة الارتياب. إذ يُضيف شعر لويزة ناظور، إلى كلّ الباقي كُلّه، خِطاباً يدعو، من خلال موضوعه ونَغْمتِه، إلى التآخي والوئام، وإلى كّلّ ما يُقدِّم لنا، في المرآة، صورةَ تاريخٍ مُتجدِّد.
آندريه ميكيل
باريس، كانون الثاني/يناير 2021