( مقالة للكاتب يوسف طراد نشرت في صحيفة ” النهار ” اللبنانية بتاريخ 42/ 10/ 2021 ) :
“حكايتي مع الشّاشة بشاشة أم هشاشة” لمروان نجّار صندوق فرجة
اقتفينا أثر الفن الجميل، في كتاب “حكايتي مع الشّاشة بشاشة أم هشاشة؟” لمروان نجّار الّذي حمل بين طيّاته جهد السنين، وغسل عناء العمر بحبر الروعة، كالرّيح التي حملت تعب الحقول السمراء إلى النهر للاغتسال من عرق الحصّادين.
تبرعم حنيننا إلى فردوس مفقود، وإلى غابة ملوّنة، راود أشجارها حلم الوطن، وتراقص فيها صبر أبطالها بنهم وبطولة. فمشاهد التلفزيون في الربع الأخير من القرن المنصرم، كان جاهلًا لمسافات اليأس والضياع التي برز من خلالها الكاتب التلفزيوني مروان نجّار، حين كان صرخة الضمير الإعلامي المعذّب وإيقاع المأساة التلفزيونية الكبرى في وطن الحريّات.
قارئ هذا الكتاب، وخاصّة إذا كان عمره من عمر التلفزيون في لبنان، يعود لذلك الزمن عبر حلمٍ بنفسجيٍّ شفافٍ، يطفو على سطح ذاكرته، ويلهب في وجدانه الحنين، الحنين إلى حياة غريبة عن هذا الجيل الذي انسلخ انسلاخًا فاضحًا، عن عالمٍ تجسّد واقعًا وحقيقة عبر شاشة صغيرة، عالم زاوج بين الحلم والواقع حينًا، وشهد صراعهما أحيانًا.
من طبيعة السرد الذي يحاكي رغبة القارئ لحكمة مروان نجّار مع الشّاشة، يظهر انسجام الكاتب الذاتي مع التناسق الموضوعي الأقصى، لعرض صوَر رحلته التي وحدّت الحلم بالواقع، عبر ممارسته الفنيّة الإعلامية التي ظهرت جماليتها بشفافية.
بحث الكاتب عن الحقائق في مصادرها الأصليّة، فأدرك قلبه الحقيقة أحيانًا قبل عقله، وهذّب حلمه كلّ واقع، فالسّرد في الكتاب حاور الحقيقة بفطرة خارج السطور، تلك الحقيقة التي لاحقت المتسلّطين بقراراتهم سياسيًّا وإعلاميًّا، وجاءت هذه القرارات بنتائج عكسيّة لأمنياتهم، وأثّرت سلبيًّا على المجتمعات التي تزعّموها بالقوة، كما وظهرت نتائج قراراتهم المجحفة بحق الإعلام ولو بعد وقت.
وها هنا حقيقة صدرت عن إحساسٍ صادق للشاعر والنّاقد الكبير الدكتور خليل حاوي، كما وردت على لسان الكاتب في الصفحة 39 من هذا الكتاب: “غير أنّ الشاعر الحسّاس المتطرّف في صدقه الشارد في ظلمة الزقاق، نظر إليّ بعينين تائهتين قائلًا: عم يستقووا بالبعث الشامي ليطلعوا من بكفيا على الشوير. إي ملبّس رح ياكلوا!”.
الكثير من الأمور التي حلم بها مروان نجّار، وراوده الشعور بصياغتها أو تحقيقها، قد تمّت بالفعل. وكلّما كانت تأتى على شكل ومضة حلم، وتظهر في البداية صعبة التحقيق، تمكّن من إنجازها وهو في حالة من الحبّ والمسرّة. ظهر ذلك جليًا عندما كتب قبيل صدور مسلسل “ديالا”، المقتبس عن رواية “تيريز إتيان” للكاتب السويسري “هيرمان إمانويل كانتيل” والملقّب بـ”جان كانتيل”، ما ورد في الصفحة 47 من الكتاب: “كتبت وأنا “عريس” في حال حبّ وتطلّع وتوق واشتياق… فاغتنى قلبي ممّا سكبته ريشتي واغتنت الورقة بما أملاه قلبي على اليراع.”…
جمع الكاتب أطفال الملاجئ بفرح عامر، فظهرت أعمارنا غبية هالكة أمام لهو الأطفال وضحكاتهم البريئة، عندما سمع أطفال الوطن المعذّب أغنية الشارة للبرنامج المدبلج عن اليابانية “زينة ونحول”، وكانت نغمًا محببًا تردد في كلّ مكان طغى عليه جو الإلفة. ولم تنهزم الحياة في حبره، فقد ترجمها لهوًا وبشاشة في مسلسلي “اللعبة”، و”سامي ماسح الأحذية”، وتناولتهما الألسن تقريظًا بعد عرضهما على الشّاشة، رغم كبح قلّة المادّة لمادّة الإبداع.
كانت الفرحة عامرة في قلبنا نحن الأطفال، وحين كنّا نشاهد جورج شلهوب وألسي فرنيني، في مسلسل “رحلة العمر”، كان الشغف الساحر يتفتّح على رحلة عمرنا، من ذوبان عاشقين ضمن شاشة صغيرة، وكان مروان نجّار عرابًا وصديقًا لقلبيهما المفطورين على الصدق والوفاء والطيبة والحبّ العفوي. وحَلِمنا بالنضوج ويا ليتنا ما زلنا أطفالًا.
روى التلفزيون بفرح يشوبه غصّة “حكاية كل بيت” حيث نُقشت أجمل الذكريات والأمنيات والضحكات، وكان هذا المسلسل بأبطاله الظرفاء بداية كل حكاية حيثما ارتحلنا جسدًا وقلبًا. وبحث مروان نجّار عن أجوبة لمعرفة الغش في برنامج “المتفوّقون”، فارتجل الحلّ على قدر أمنياته، ولم يرهقه أو يدهشه الغش المتأصّل في البشر، لأنّه كان يطمح لرسم صورة رسالته على أفق أوسع، خلال تجواله بين الكلمات والمعاني والألحان والإخراج.
لم يترقب الكاتب فجر برنامج “فارس ابن أم فارس” بعد ليل لا نهاية له، فكلّ الأمنيات لا تتجمّل إلّا بلمساته المتوّهجة واحات فنٍ فوق جدب الجهل. فوقف في باريس على حافة اللحظة عندما بلغه خبر عرض البرنامج، وكان قد كتب حلقتان منه فقط، فعاد مسرعًا إلى بيروت ملاذه الدافئ، كما يعود الأزرق لامتداد بحرها كل صباح، مغتسلًا من تعب السفر بحبرٍ أدخل الدهشة والسرور إلى قلب المشاهد.
أي كاتب مطالعة عن هذا الكتاب يستطيع أن يفي يراع وفكر وأعمال صاحبه حقّها؟ فالرغبة تباغته وتلحّ عليه أن يكتب عن كل سطرٍ سطرًا، ويشعر بأنّ ما خطّه هذا الكاتب في كتاب “حكايتي مع الشّاشة بشاشة أم هشاشة؟”، هو انعكاس لطفولة ومراهقة مرّتا في زمننا أيام الفقر والجمال، ومن ذاك الحين لم نطلّ على شاشة جديدة لنشهد انعكاس أعمال كالأعمال التلفزيونية التي لمعت في الزمن الغابر حين شاهدناها بعد أن شاهدتنا. فحاملو الهواتف الذكيّة في هذا الزمن والذين يستطيعون الدخول إلى كلّ خفيٍّ، بكبسة زر، أو لمسة شاشة محمول، إذا ما أخطأوا ودخلوا إلى أحد المواقع التي تعرض تلك الدرر القديمة، يحسبون أنفسهم في عالمٍ غريب كغرابة “صندوق الفرجة” الذي كان آباؤنا يخبروننا عنه، ويعود ذلك لفائض البرامج التي تعرض الواقع المؤسف بوقاحة محبّبة، مظهرة طرق تعاطي المخدرات واستعمال السلاح، غافلة عن ابتكار العلاج لتحصين المجتمعات.
رغم الألم ومحاربة الجرأة من قبل التقليد العقيم، “مرحلة مؤلمة خرجت منها عازمًا على ترك الناحية الإنتاجيّة نهائيًا والانصراف إلى الأبحاث والكتابة فقط”، العتب كبير على مروان نجّار، كيف ترك الوطن عندما كان يغتسل في سيول النار، وتغتسل معه العقول بالعبث، فمنذ اعتزاله الباكر الإنتاج التلفزيوني، تجمّد الزمن تجاه الانزلاق العبقري، بالرغم من قدرته على المتابعة، “وأحيانًا يخامرني شعور بأنّ حكايتي مع الشاشة لم تبدأ بعد”، فما زلنا من برامجه “طالبين القرب”. فـ”لوين يا مروان ع مهلك/ ع مين تارك أرضك وأهلك”، ما زال وطنك يحبل بالمآسي والموت، ولن يُولد من رحمه السّلام، بسبب الصراع الأبدي الطائفي وتناقض وجود المذاهب فيه بدل تفاعلها.
لكنّ الحياة ستنتصر في لبنان، وتُحَل المعجزة في حرز احتوى الإبداع وسلوى الزمن الهارب، حيث لا تزال أسطورة التلفزيون تعشّش في دهاليز عقولنا التي لم تستوعبها في حينها، مبلسمة الجرح الإلهي النازف في أعماق الذات الوطنيّة، مرددة ابتهالها الأبدي إلى خرافة الفينيق الذي لا يتولّد إلّا من الرماد.