الرخصة الشعرية
الشعر يحتاج إلى رخصة من بيوت الآباء الشعراء. من هؤلاء الملوك الذين يحكمون العالم بشعرهم، دون أن يتسببوا بقطرة دم. لأن الشعر سلطة. ولأن الشعراء سلاطين. ولأن الناس، عموم الناس، هم من “تابعية الشعر”. من “تابعية الشعراء”، من “التابعية الشعرية”، بلا إستثناء. ألم يقل “كولرج”: إنّ الناس كلهم شعراء بالخيال الأولي. ثم إذ هم يحتاجون إلى الخيال الثانوي من بيوت الشعر ، إلى الرخصة الشعرية ، حتى يصيروا شعراء رسميين.
ليس كل من أحب الشعر وحفظه هو شاعر. ليس كل من جرب الشعر في المناسبات وفي( …) هو شاعر , ليس كل من تغنى بالشعر وإستعمله، هو شاعر.
الشاعر هو أحوج إلى “الرخصة الشعرية” من بيوت الآباء الشعراء الملوك، حتى يرخص له الناس بالشعر. قال إبن سلام في مقدمة كتابه “طبقات فحول الشعراء”: ليس كل من قال شعرا فهو شاعر. وليس كل من أحب شعرا، كان به عارف. الشعر يحتاج إلى من يعرف بنسيجه، بمعدنه، مثل معرفة الحائك بالنسيج، ومثل معرفةالصيرفي بالدينار. ولا يقبل بالتضامن معه، من أي طرف كان، لأنه يحتاج إلى من يتخرج من بيوت ملوك الشعر، لا لمن يخرج بشعره على الناس، من بيوت الأميين.
الشعر علم ومعرفة. وهو إلى ذلك كد وكدح وإجتهاد. الشعر دربة وإختصاص. يتخرج على يد ملوك الشعر، فيلبس عباءة هؤلاء النوع من الملوك، ولا يؤذن له بالإختلاط بالعامة، إلا في المواسم، لئلا ينصرف عنه الخيال الثانوي، فيتأذى بذلك الشعر ويؤذي صورة صاحبه ويشوهها.
الشعر يحتاج إلى برج عاجي. يحتاج إلى صومعة. الشعر يحتاج إلى مرقب. الشعراء يتقدمون ملوك الأرض. وعلى هؤلاء أن يكونوا ظلالا لهم، إذا ما أرادوا لممالكهم، أن تحكم بالصلاح، وبالعدل. ففي الشعر سلطة. وللشعراء على الناس سلطان. وعلى الشعراء أن يقروا في بروجهم، حتى لا يتسببوا بالأذى للشعر، وحتى لا يتسببوا بالأذى، لأخوانهم الشعراء.
قبل وجود الجامعات والأكادميات، كان الشعر يعيش في حجور الشعراء الملوك. وفي هذة الجحور الشعرية الملوكية، نشأت المدارس الشعرية. وعلى أيدي أصحابها، أخذ الشعراء يختصون بما يلائمهم من شتى ألوان وأنواع وفنون وضروب الشعر. ولم يكن ذلك وقفا ولا قصرا على شعر العرب. بل على شعر الأمم القديمة كلها، ومن بينها العرب. ولو أن العرب صنفت بأنها “أمة شعر”.
ما كان لشاعر قديم أن يخرج عن تلك السنن الطبيعانية الرسالية للشعر. ما كان يؤذن له أن يتربى، إلا في حجور الشعراء. ولا يتكلم إلا في مواسم الأسواق، ولا يعيش، بعد نيله “رخصة الشعر” إلا في كنف الملوك. أو ليس المتنبي من يقول:
وفؤادي من الملوك، وإن كان لساني يرى من الشعراء.
الشعر أعظم مهنة في الأرض. الشعر أخطر مهنة في الأرض. الشعر ألذ مهنة في الأرض. الشعر أجلّ كتاب من الأرض. الشعر أعظم لذة على الأرض.
الشعراء جلة جليلة، لا يخالطون، ولا يختلطون، ولا ينكسر لهم خاطر. ولا ينكسر لهم بيت. يعيشون في قصورهم، ولو كانوا في “كسر بيت”. الشعراء يحوذون على “رخصة الشعر”، ولهذا يجب أن تبنى لهم الصروح، فيقيمون فيها ملوك شعر: يؤتون ولا يأتون. ويقلون، نعم يقلون من الخروج.