نقلا عن مجلة “القدس العربي :
” مرايا التجريب في شعر حكمت حسن “
بقلم الكاتب والناقد : الحسام محيي الدين
-×-×-×-×-
تتكوَّرُ تجربة حكمت حسن الشعرية حتى الآن على ثُلاثية الدواوين، التي صدرت جميعها عن دار نلسن في بيروت: فالأول «خاتم» (2016) والثاني «مسمار» (2018) والثالث «ذئبة» (2019) وهو الأخير حتى هذه اللحظة. وتنهض تجربة الشاعرة اللبنانية على تجليات التعالق بين الدال والمدلول، وكشف مدى ما يكتنِهُ هوامشَ الإلهام والإيحاء من جموحٍ نابض ينتظمُ القصيدة مُنجزةً على الورق وهي تسترجع صوت الأنا ببُعده الماضوي عمقاً وأصالة، ومُشاكَلَتِهِ مع الواقع المفتوح على معاني الأنوثة ومعاناتها في قاموس ثيمات ملونة: الحب، الألم، الوجود، المصير، الموت، الحزن، الليل، السفر، السماء، القبلة، المطر، الإغواء، التيه، الرغبة، وغيرها من المعاني الزاخرة التي تخلع على القصيدة فانتازيا حداثوية، تستغرق تلك الدواوين وتتوازى مع التنويع على أفكار ومواقف متعددة في مواجهة الحياة، تتمثّلُ مآلاتٍ يرتاح إليها القارئون.
بهذا المعنى، تعيش حكمت حسن مراحلَ تجريبٍ بين ديوانٍ وآخر، وتمسكُ بناصيته في المستوى والدلالة كي تحوز اللحظة الجمالية الحُبلى بالدهشة في متن النص، انعكاساً آسِراً لسر العلاقة بين المعنى واللغة، وذهاباً مباشراً إلى الفعل وإعادة الفعل غير مرة. التجريب المُتحوِّلُ عن مضامين حداثية تشتبك مع الواقع، وتتحداه أحياناً، بقوة التعبير في صوت الجملة الشعرية وهي تنفصل عن الوزن الخليلي، وتزدهر بها القصيدة نصّاً وثيقاً يُعتدُّ به ويَستدرِكُ الفعل الحداثي في الإجابة عما تعانيه حسن في كينونتها الأنثوية، وهي تفجّرُ اللغة بلا خوفٍ ولا تردد، وتقفز إلى أقصى ما تحققه لها التجربة من تأكيد حضورها الإبداعي المختلف، من دون أن يكون ذلك كله لعبةَ تجدُّدٍ مزيَّفَة ترفضُ التراث، أو غايةَ تضادٍ مع القديم.
تجيد حسن تقليب الخواطر من غير تكُّلٍف على مذاهب التّجريب، بما هي خطابٌ لغويّ يساند هيكلية الاجتهاد في مقاربة الذائقة الجمالية المثيرة للحلم والحسّ والمتعة والأمنيات، في علاقة المرأة بالرجل، وتصيب دائماً على امتداد نصوصها الغزيرة فنّ البلوغ العاطفي غير المُقلَّد وهي تتلمّسُ حساسية الأشياء والتفاصيل والأهواء التي تلتبسُ تلك العلاقة، ما يخلقُ تواطؤاً غريباً وجميلاً بين الفن والأخلاق، على الرغم من العداء القديم بينهما، ومقروئيةً متحولة عن الطبيعة الحرة لهذه الشاعرة، وهي تختمر لتُنتِجَ الشِّعر. ويأخذ التجريب هنا عدّة معانٍ أهمها الحيرة المحفّزة لملء الحضور في مديات الأحاسيس لامرأة مغايرة، تنظمُ الشِّعر وتتوسَّمُ فيه مصدرَ تسامٍ فائقَ الإلهام لنضوج التجربة كيلا تظل هذه الأخيرة أرجوحةً معلّقةً بأغصان الكلام في غفلة من انهماك حسن بالشغف الشعري على جسد القصيدة. إنها التجربة التي لا تتكسّرُ فيها القصائد على القصائد، ولا تتكوَّمُ المعاني سُدًى على ألفاظها، إنما تخلق عناقاً دلالياً بينها، يُرتبُ الوحدة الموضوعية للقصيدة، في تلاؤم الصوت واللفظة، وحسن التساوق بين المعنى والآخر، ويتنبَّهُ لغموض التفكُّك فيها كما في قصيدة «مبني للمجهول»:
من أحبُّهُ أطلقَ قلبي عصفوراً في فضاء جسدي
من أحبه جمع دمي في قبضته كي لا يُراق..
من أحبه، من أنتظره، من طال اشتباهي به،
لم يتطابق سوى والنسخ… والتماثيل!
في هذا الاتجاه، تحفّزُ النصوص إرادة القارئ على التوهج، في جدليتها المتحولة، المتغيرة، التي ترفض الجمود، وترصد أسرار البِنى الفنية التي استغرقت الدواوين الثلاثة، وأمّنتْ استيلاد الرؤى الحداثية منها في تمثُّلٍ شديد العمق والدقة لحاجة الإنسان الدائمة إلى التكيف والتلاقح مع غيره ومع أحاسيسه، وهذا كله تجريبٌ بمعنى أو بآخر، واستشرافٌ دائم لعناصرِ الطرافة والمفارقة والابتكار، المحتشدةِ بين الذات والآخر، كحركَتَي مدٍّ وجزْرٍ تتناوشان فائضَ المُطْلق من جماليات اللغة على شاطئ الأدب الجميل. إنه مفهوم التجربة المستمرة، بمعناها الوَعَوِي الذي يفصل الحقب الزمنية عن التحكم بالنص، والذي يرى إلى رصف المَقُول على درب يوتوبيا الأحاسيس بمسؤولية وقناعاتٍ جريئة، وبعين المغامر الرائي في إخلاصه لطقوس الكتابة في العلاقة المتحولة والمُطلقة بين امرأةٍ ورجل. بهذا المعنى تستنفر حكمت حسن قصائدها في تفسير قصص حب شهية التمرد، عاصفة النهايات، لكنها ضائعة لا نوال فيها، تجيش بالقلق بديلاً من الثبات، وبالشكوى بديلاً من الفعل:
أهاجر مُرغمة
فقد نفد آخر حبٍّ !
فرغتْ مؤونتي وبقيتُ عزلاء
لا حنين داخلي
لا قشعريرة خارجي
لا رحيل
لا عودة.. وَلِأَثِبْ
عليَّ أنْ أُسقِطَ أوزاني
وأمتلئ
إذا فعلتُ أكونُ محض هباء !
وهي في الواقع بعيدة التلخيص والتخليص في فهم على هذا النحو يؤرّق التجريب تجربة حكمت حسن، ويُورِقُ في عناوين دواوينها التي وسمتها بمفردة واحدة كلٌّ على حِدَة: خاتم، مسمار، ذئبة، تؤكدُ كلٌّ منها أنها وليدة أزمة جوّانيةٍ خام، ترى إلى كشف قدرة الشعر على بسطها أمام القارئ من لدن شاعرة حداثية بالفطرة تقتصد في اللغة أو تجود بها، وفاق حاجة النص، بعيداً من الوقوع في فخ التكثيف الذي قد ينسف امتداد الدهشة الماتعة، مع امتداد الجملة الشعرية، وبمعزل عن الإِخبار والحشو مما تكاثر في الشعر اليوم. وإذ تتساند الأفكار والمشاعر في متون القصائد، فإن حسن وظّفتْ الفرصة الشعورية بكفاءة في نصوص مفيدة تنعتق من السائد في وجوهه كافة، فلا تكتفي بالغضب والعزلة إنما تقفو سبيل التمرد والثورة، وهي تقارب الأنا المخلصة بتخاذل الآخر الحبيب، وربما الصديق، في لوحة إنكار وانكسار على حوافّ ألم مباشِر وعفوي: