….ينشر موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي , قراءة أدبية تحليلية للناقد والشاعر عبد الله السمطي لثلاثة أبيات شعرية ملفتة نشرتها الشاعرة اللبنانية رولا ماجد على صفحتها الفيسبوكية , وقالت فيها :
حبيبي العمرَ في قربي تملِّ
أنا لولاكَ ما أكملتُ كُلّي
سأخلعُ للمدى جسدي بصمتٍ
لعلّك ترتدي ظلًا بظلّي
أنا إلّاك ما أجنيتُ عِشقًا
فهل أجنيكَ دون الروح قُلْ لي؟
**
قراءة الناقد عبد الله السمطي :
(1)
ثلاثة أبيات بقصيدة كاملة، هكذا تكثف الشاعرة رولا ماجد رؤيتها الشعرية هنا في أبيات ثلاثة تعبر عن هذه العلاقة الدلالية الثلاثية
الأولى: الأنا التي تتحرك في الأبيات لتعبر عن حضورها، وتجليها من خلال أسلبة ياء المتكلم عبر تكرارها ست مرات في الأبيات، وهو ما يجلي لنا بداءة هذا الحضور الكثيف وفي كلمات دالة بالأبيات: حبيبي، قربي، كلي، جسدي، ظلي، لي. هي متتاليات أنوية أو بالأحرى تعبر عن الأنا الشاعرة في القصيدة المركزة هذه الأنا التي تبحث عن حضورها الذي يوجه خطابه للآخر.
الثانية: حضور الآخر المخاطب منذ بدء الأبيات في أول كلمة يحضر عبر أداة النداء المحذوفة، حبيبي. وهي ليست مجرد كلمة أو دالة عادية كما نعلم جميعا، فلها جذورها الإنسانية البعيدة ورغم استهلاكها في الحياة العامة وتغير دلالاتها ما بين الفصيح والشعبي والحياة اليومية إلا أنها حين تحضر في القصيدة يعاد لها رونقها من جديد خاصة إذا كانت القصيدة ذات أداء فني عال. ويحضر الآخر بالتأكيد كعنصر يتوجه له الخطاب بكل مدلولات كلمة حبيبي، التي لا تنعتق أيضا عن دلالاتها الصوفية والوجدانية والروحية، حيث يصبح الإنسان، تصبح العاشقة هنا معبرة عن هذه الجدلية الدائمة بين الجسد والروح، وتستدعي هذا البعد الصوفي الحلاجي : كلك كلي، بإشارة مركزة من الشاعرة رولا ماجد. هنا الآخر يكون في موقف الإصغاء للرؤى والتساؤلات التي تطرحها الشاعرة في الأبيات مع بيان فضل هذا الآخر في النصف الثاني من البيت الأول. الآخر يتعزز حضوره في الشطرين التاليين من البيتين الثاني والثالث. كأن ما يسمى في البلاغة العربية برد الصدر على العجز يمارس هنا دلاليا وتأويليا أيضا. فللشاعرة النصف الأول من البيت وللآخر العاشق النصف الثاتي.
الثالثة هو رسم العلاقة الوجدانية السينتمنتالية فالحديث الشعري هنا حديث عاطفي روحي، خاصة أنها بلغت درجة الاكتمال: لولاك ما أكملت كلي، وهي درجة عالية من الوجد العاطفي، تشف عن حالة من الامتزاج الكبير بين أنا وأنا. الآخر لن يصبح آخر هنا مستدعى بل أنا كامنة في الأنا، تتفاعل وتمتزج وتصبح في سوية واحدة. إن الشاعرة هنا تعطينا معنى التحليق الروحي الذي سيتجاوز المحسوسات إلى فضاء المعقول النفكر فيه، فإذا تحولت إلى هذا الفضاء تصبح الأبيات مناط تأويل لا تفسير. مما يسمح للقارئ بالانطلاق اللا محدود في القراءة وذا من الأمور الشيقة في أبيات رولا ماجد.
(2)
يتحرك البيت الأول حركة شعرية جاذبة في البدء، ذلك لابتدائه بأداة نداء ولو محذوفة، لكن النداء صوت تنبيه، وصوت جذب للمستمع أو المنادى عليه، وتأتي كلمة حبيبي لتحدث انتصارا دلاليا بما لها من حضور في الذاكرة والوعي العام، هنا ينتظر القارئ أو المستمع ماذا سيحدث بعد النداء؟
انتقلت الشاعرة إلى إشارة كبرى للزمن، لكنه زمن خاص، هو عمر الأنا، عمر الذات في النص، وهو عمر مرهون بالقرب المتأمل الشفيف، ثم تواصل في البيت الثاني بالإشارة إلى الأنا ضمير المتكلم بشكل مباشر جلي صريح، لتعبر عن الاكتمال العاطفي ودور الآخر في هذا الاكتمال، وفي البيت الثالث تطرح الرؤية الكبيرة والسؤال الأزلي عن ماهية هذا الاكتمال هل بالجسد أم بالروح أم بكلاهما معا، فتطلق سؤالها خاتمة الأبيات بسؤال هو مسك الختام كما يقال أو حسن الختام كما تعبر البلاغة العربية حيث تترك السؤال في بيتها وتجعل النص مفتوحا للتأويل والأجوبة المتعددة.
لم تغلق رولا ماجد قصيدتها المكثفة هنا بل جعلتها مفتوحة للتأويل في انتظار تعدد الأجوبة من الآخر المحبوب أولا ثم من شرائح القراء.
إن النص المفتوح غير المغلق على يقين أحادي هو نص يستثمر في الدلالات وإعطاء هويات متعددة للأجوبة وبالتالي لتعدد القراءات
(3)
تشكل الصور الشعرية الناتئة في الأبيات جوهر شعريتها، بل إن الشعر لا يحيا ولا يتميز من دون صور، وسأشير هنا إلى أربع صور تشكل جوهر الأبيات وهي: لولاك ما أكملت كلي، سأخلع للمدى جسدي بصمت، ترتدي ظلا بظلي، أجنيك دون الروح. في هذه الصور تشكل الأبيات أبعادها وهي جميعا صور تلعب الاستعارة فيها دورا في تشكيلها يصبح الآخر طرفا حسيا أو روحيا للاكتمال، الجسد رداء يهلع ولو بنوع من التجريد، وكذلك الظل يتم ارتداؤه، فيما إن الروح العلامية الجوهر تصبح ملموسة ومستدعاة. هذا ما يتضح لنا بداهك بشكل بسيط، لكن الشاعرة سعت إلى تقديمه بعمق، عبر إيقاعية بحر الوافر، وهل هناك من سؤال أعمق من سؤال الروح؟
إن الجمالية الشعرية هنا تتبدى في تراتبية أداء الجمل الشعرية وحسن تنسيقها وإيرادها بشكل متسلسل يقنع القارئ ويقوده إلى الإصغاء وابتكار مكامن النص والبحث عن طبقاته الدالة المتنوعة
(4)
لقد أخذتنا رولا ماجد إلى فضاء شعري مركز ومكثف عبر بيان هذه العلاقة الوجدانية الثللثية الأنا والآخر والحب، وهي العلاقة الأزلية المستمرة منذ البدء، كتب فيها الكثير من الملاحم والنصوص، بيد أن تكثيفها هنا يحاول أن يستعيد لنا قدرا من هذه الهواجس الإشارية حيث تصبح كلمات القصيدة هنا بمثابة إشارات تضيء وتسمي وقد تعتم وتلغز، قد تجيب وتتساءل لكنها في التحليل الأخير تمنحنا قلق السؤال ومتعة القراءة معا.