…ينشر موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي الحلقة / 2 / من سلسلة ” انعكاس ” للكاتبة والشاعرة د. لارا ملاك ..
حلقة اليوم تحت عنوان :
” الحبّ “
(من وحي رواية “جنّة عدن” لإرنست همنغواي)
-×-×-×-×-
صائد جينات القلق أنتَ، وما القلقُ إلّا المغايرة. تخاف أن تتحوّل الأشياء، أو أن تتحوّل أنت. تلاحق لحظةً كموجةٍ لا بدّ من تكسّرها. أنت عددٌ مفردٌ تدركُهُ اللّغاتُ فقط، أمّا الأبعاد فتجزّئُهُ أو تجمعه. اثنان فيكَ، أو مكانان أو معنيان. لهذا يأتيكَ الحبُّ، لأنّك الأقدَرُ حين يريدُ أن يشتّتكَ أو أن يصهركَ. تخبرُكَ الصّدفةُ أين تكون وأين تجدُ لقاءاتِك، وأين تفضح متاهاتك. يعلقُ قلبك على الصّدفة حتّى يحتويها ويحتوي معها قلب الحبيب.
لا يقولُ لكَ الوجهُ كلَّ شيءٍ حين تراه، لأنّه غامض حتّى عن نفسه. لا يعلم كيف يشرّح نفسه على المرآة قبل أن يلقاكَ، فيذوي فيكَ حتّى تشرّحه فتكون حقيقته فجيعتك. هكذا تكونان اثنين، عاشقين، حبيبين، مخُتارين، تلفيان صميمَ الأحجية.
تحبّ، تجد الحبّ تفكيكَ المسائل ورصد توازنها، كأن تفهم لهجة مَن تحبّ، أو تحلّل خطأه، أو تبرّر مسامحتَك له حين يبدو الصّفح موجعًا حتّى الضّحك.
قصّةٌ يوميّة من تناول الطّعامِ معًا، إلى الرّقص والفالز والنّكات المبهجة والسّخيفة، جسدان يرنوان في بعضهما بحثًا في الجمال وفي الرّغبة المريرة.
كأنّ الحبّ سردٌ رشيقٌ لذاتَيْكَ، هنا الكلامُ اندماجٌ يليه انسلاخ. تلوي ظهرَكَ وساقيْكَ عكسَ جسمِكَ كي تقنع جلدَكَ بأنّك قادرٌ على البقاء في علاقةٍ صاخبةٍ حتّى الدّمار… أو تلوي أصابعَكَ عكسَ القلم الّذي تكتب به كي تقنع رسالةً بأنّك لم تملّ من الكلمات نفسها، ومن المعاني الّتي غابت بعيدًا…
أو قد تكون كما أنت، بلا انحرافاتٍ خطيرة في مسار الدّم المكبوح في شريانك. قد تكون عاشقًا ومعشوقًا كما أنت بزواياكَ المشرّعة على الهدوء، لا المقلّصة على تعب الظّنون والانتظار.
الحبّ هو الغضبُ المتاح بحميميّةٍ شرسةٍ ودافئة، صمتٌ كثيرٌ من احتضانٍ وألفة. هو ضابط سرعتك حين تؤثر الرّحيل أو البقاء أو التّرنّح بين جدرانك. هو ألّا تطيق النّسيم الّذي يداعب جلدك حين يقف بينك وبين الذّراعين اللّتين لم تتركاك يومًا للعراء الموحش مهما اكتظّت مساحاتٌ بالضّجيج. هو أن يطبق ضوءٌ عليك، فترى منه كلّ شيء، ويقيك أيضًا عتمةً وشرودًا، ويحرّرك من أناك المطلقة.
الحبّ أن تفصل ذَكرَكَ عن أنثاكَ حين تعي كمّ الخلايا المتناثرة المتنافرة فيك، ثمّ تعيد ترميمها بجنونٍ يستبيح تجاربك. هو ابتعادٌ حين تحتاج ألّا تكون وحيدًا، لكن يبدو لكَ الإسراع على قدميك أكثر الطّرقات منطقًا وسلاسة. هكذا تحبس قليلَكَ من خيباتٍ وكثيرك من رفضٍ وتبدأ. تروح تجيء، تقوم تقعد، تغيّر وجوهك حتّى تستقرّ وإن على وَهَن.
حَبْلٌ بين غرفتك وحبٍّ جديدٍ، يحجبكَ عنه جدارٌ وحيدٌ من قيمٍ أو وفاءٍ أو ريبة. حين تهزّ الحبل يُهدم الجدار بلا أدنى صوت حتّى تظنّه لم يكن. تقطع مع الأفئدة حبالك، تودّعك بقايا يدٍ ربّتت على وجعك، لتستقبل الأيدي بكتفٍ جديدة. تصير حرًّا لوهلةٍ كأنّك بلا أحمالٍ فوقك أو حتّى بلا كتفين. لكن بعد اللّحظة الأولى يغلبك الأسى، فليس للحبّ ثانٍ جميل، بل له أوّله البرّاق الجامح وثانيه هادئٌ بلا لمعة الهدايا أو فضول خفاياها. يبقى الكون معطاءً، لكنّ العطاء الأوّل أتى عطشًا، وأتى الثّاني على شكل خيبة.
أنتَ مثلّث الحبّ. أنت النّار، أو شعلة الأنا الّتي ترى ذاتها وتتّقد منها، و”هو” الأوّل ذاكرتُكَ، حنينُك، و”هو” الثّاني وجهتُكَ، توقُك، قدرتُك. تلقى أناكَ منشغلةً بكَ، وتشدّ جهتيكَ في كلّ صوبٍ. هكذا لا تستقرّ، وهنا الأحجية، هنا الإجابة. كيف لدمٍ في لحمٍ أن يستقرّ؟ كيف لقلبٍ أن ينبض دون أن يهتزّ؟ ماضيكَ داء الحاضر ودواؤه، مخاوفه العظمى ورؤيته الفذّة. هو ساعتُكَ المضبوطة عكسَكَ حتّى تبني لك مرآةً وانعكاسًا مضادًّا يُبرزكَ حين تكون.
هو أن يطول شَعرُكِ مهما قصر، فإن قصر له خيالات الوداع وقرارات التمنّي، وله جذوره المنثورة على أفكاركِ ومشاعركِ المرهفة.
هو أن تسابحي البحر وأن تخامري النّبيذ وأنتِ تقرئين جلده المحموم ومسامه المفتوحة على ذكرياتك وعلى أيّامِكِ العابرة. هو عبور اليوم من صباحكِ حتّى مسائه. كساعةٍ يطرق عقربه ذهنك وإن عدّل توقيته تقامرين اللّيل على صباحٍ جديد. الحبّ هو أن تبعثركِ الرّيح كغيرةٍ ذكيّةٍ وقاتلة، حتّى لا يتسنّى لكِ أن تصفّفي شعرك أو أن تدلّكي تضاريس جسمكِ المأخوذ بما عليه من حركة.
هو أن لا تدركي الطّريق في مرآة سيّارتكِ الخلفيّة ولا تعلمي شيئًا من منعطفات وجهتكِ، فيكون المنعطف جولة شوقٍ أو نزال سيوفٍ مع القادمين الرّاحلين عنكِ.
قد يكون الحبّ أن تستحمّي في البحار بدلًا من رتابة الماء السّاخنة في بيتك، أو أن تعلقي بين زجاجة الخمر وخطوات الرّاقصين لا أن تثبتي على أريكةٍ عاريةٍ دافئة في الصّالونات الملوّنة.
الحبّ لونُكِ الّذي هجر الألوان جميعها، الّذي تخلّى عن اللّوحة لأنّها مثقلة بزوايا الأطر. لونٌ بلا لونٍ يبدع الفرح لأنّه فوق الابتسامة شفاهٌ نديّةٌ وظلال قبلة.
الحبّ أن تبدّل قميصَكَ كلّما لاح البحر بمواسم جديدة، وتبقى أنت حنينًا لأوّل صدفةٍ رغم انقلاب الموج وتخبّطه تحت قدميك.
أن تعاكس الماءَ حين يأتي موعد الحبّ ولا تجدها هنا معَكَ. تقضي قلبًا من حياتِكَ تنبض، وقلبًا آخر ينبض بك. هكذا توقظك الحيرة كمنبّهٍ صباحيٍّ انفلت توقيتُه واستباح غفوتك. تستيقظ، تضبط المنبّه من جديد لكنّ جفنكَ بتوقيتٍ خاصّ ودمعةٍ غاضبة.
تغسل وجهَكَ تلاقيها، تعاهدها، تسابحها، ينصرف بعضها عنكَ، ينصرف بعضُكَ منكَ. فراقٌ، وصالٌ، عودةٌ عارمة، صفعة الإرباك، حبٌّ بلا توقّعات. يكفي أن تكون كاتبًا حتّى تطفو إرباكاتكَ على وجهك، أو على ورقك بالحدّ الأدنى. قد لا تجد من ينظّف عنك زبدًا أو ينزع لكَ ذاكرةً إلّا من تحبّ.
قد يعيبُكَ نبيذُكَ حتّى لا يقوى على درء العاطفة الّتي فيكَ، فيصير الطّوف بكَ إلى المقاهي والمقاعد والمرايا توقًا إلى حضنٍ أو هجرٍ بعيد. أراكَ تقود الوقت، ولا تجده. تثرثر كثيرًا على مائدة طعامكَ، تأكل قليلًا. تنام كثيرًا في سريرك، تغفو قليلًا. تتشابه الأوقات، والجنون يأخذ بامرأةٍ ويأتي بغيرها، وأنت تعيد ترتيب الوجوه. هائلٌ صفوُ المكان حين تقول لأنثاكَ كيف فشلتَ في المضيّ أو كيف نجحتَ في البقاء. قد يكفي أن تصافحها أو أن تشتمّ بقاياها، أو أن تنتظرها على فنجان قهوة. مَلءُ الحكايات يحتاج أفعالًا كثيرةً وبطلًا واحدًا، والوجدُ أيضًا ملجأ القادرين على تحريك المكان من كبوته المريرة.
قولا بعضكما مهما كانت هويّتكما، ومهما اختلفت فيكما اللّغات. كلّ واحدٍ هو إفصاحُ الآخر وعرفانُهُ وقدرته.
الحبّ حرّيّتنا من الذّنوب ومن عُقد الرّحيل والبقاء، ومن حروب الأمنيات والمعجزات. هو المستحيل الّذي يريحنا فيتعبنا ثمّ يريحنا. هو حَمْلُ الهبوط وشَطْرُ الهواء حتّى نقي بعضنا حدّة السّقوط.
الحبّ ألّا ننسى.
( د. لارا ملّاك / لبنان )