” كشك نعيم”
لم يبق في شارع الحمرا شيء على حاله. لا رصيف للمشاة. ولا مداخل للبنايات. ولا واجهات للمحال. ولا مقاهي للصباح، ولا للضحى، ولا للظهيرة ولاللعصر، ولا للغروب، ولا للمساء.
شارع الشانزليزيه إختفى من شارع الحمرا. لم تعد ترى غير الوجوه الكالحة. لم تعد ترى إلا أطفال الشوارع. إلا أبناء الشوارع. إلا بنات الشوارع. إلا نساء الشوارع. إلا فتيان وشباب ورجال وشيوخ الشوارع.
هجر أهالي رأس بيروت شارع الحمرا، وحطوا في الجبال والقرى، هربا من فاتورة الكهرباء. هربا من ضجيج الموتورات. هربا من رائحة المازوت.
لم يعد شارع الحمرا، متنزه العائلات. لم يعد شارع الحمرا محج الغرباء. فلا تستطيع أم أن تزوره مع أطفالها. إسود كل شيء فيه. حتى البلاط حتى الرخام حتى الجدار، حتى العتبات. لم تعد ترى في شارع الحمرا شاعرا ولا أديبا ولا مفكرا.
وحده بول شاوول تملك شارع الحمرا. مكث إلى طاولته، يراجع في ذاكرته شمسه الآفلة.
وحده علي حرب، يزرع الشارع ذهابا وإيابا، بيده سراجه وأوراقه. يبحث عن الحقيقة، في عز الظهيرة.
وحده شوقي بزيع، يروح ويجيء، يبحث عن غريم. عن ظل غريم. هاجر غرماؤه إلى دنيا الله الواسعه.
خلع شارع الحمرا ثوبه الإفرنجي. خلع شارع الحمرا عباءته الخليجية. صار يتمشى بدشداشة ممزقة.
لم يعد شارع الحمرا مزهوا بنفسه. تراه يلملم أنفاسه منذ الصباح الباكر. يختبئ بعورته، في الزواريب القريبة. صار “كشك نعيم صالح”، معلم الحمرا الباقي. صار نعيم “الحي الباقي”، في شارع الحمرا.
لا أتيكات في شارع الحمرا. ولا ماركات. حتى محلات البزورات التي إستحدثت فيها، خلعت أبوابها. خلعت رفوفها. حملتها لمناقير الطير . خطفتها من عيون العشاق والساهرين والسامرين، على مقاعد الحانات الباكية.
صار الشعراء والرواة والمؤرخون، وسائر الكتاب، يخجلون من المرور في شارع الحمرا.
تراهم ياتون إليه خلسة. يقفون على كشك نعيم. يحملون منه صحفهم، ويطيرون بها مثل الحساسين الجميلة يزقزقون، مجموعات مجموعات، عند “خيرات الزين” في قريطم، وفي زاروب البروباغاندا، يحلون ضيوفا ثقلاء على دكان أبو سمير. وفي قهوة الزاوية، قبالة الجامعة الأميركية، وأحذية بلعة. يهربون من أن يطالهم شارع الحمرا. يهربون من الشبهة: أنهم كانوا في شارع الحمرا. أنهم مروا بشارع الحمرا. أنهم عبروا بشارع الحمرا.
على الهاتف، يتواعد الأصدقاء. يتواعد الخلان. يتواعد الشعراء والكتاب والرواة والصحفيون والنقاد، والأكادميون، شللا شللا، في دكاكين شارع الحمرا. أمام الكافيتريات الصغيرة. يجلسون إلى طاولات البلاستك، والمقاعد الشعبية الخشبية. يعلكون الذاكرة. يمضغون تفل قهوة الحمرا في الزواريب القديمة. يتشاجرون على الشعر على الرواية. يتشاجرون على خائن من الخونة. خانهم في اللحظة الأخير. سرق منهم بهجة شارع الحمرا.
يخون الأصدقاء مواعيدهم، فلا يصلون على الموعد. تشاجروا مع سائق التكسي، على الأجرة. إنتظر العيادات. فلا مصاعد. ولا مازوت.
كل يوم، يهرب الشاعر نعيم تلحوق من وزارة بلا ثقافة، إلى الحمرا بلا الحمرا، إلى زاروب ودكان وباحة، ينفض قلبه على زملائه، فلا يجد الزمالة ولا الزميل. ولا الصداقة ولا الصديق ولا ظل أبا حيان التوحيدي.
ظلال سوداء إلى بلاستك المقاعد والطاولات. تحجرت عليها العيون، من كثرة التحديق فيها. صار الشعراء من الزول القديم. صار للشعر زول، إسمه تلحوق. وصار للشعر إبليسه إسمه شوقي. وصار العطروني، إلياس الرواية، أخا سفر يومي بين زاروبين: زاروب بربور، وزاروب هارب من الحمرا إلى دكان “أبو سمير”. خجلا ممن في شارع الحمرا. يتسلل إليه من جهة مستشفى الجامعة، حتى لا يقال: له أتيت من شارع الحمرا.
دفاعا عن الحمرا، يقف كشك نعيم صالح. ما هجرته حرب. ما هجره عدو. ما هجره إعتداء. ما هجرته واقعة الوينبي، ولا الإحتلال الإسرائيلي. ولا هجره عدو. ولا هجرته أمية مستحدثة، تجتاح شارع الحمرا من “دار النهار”، إلى “دار الحياة”، على تقاطع السادات.
كشك نعيم صالح، بجوار “الكافيه دي باري”، المنتهية الصلاحية منذ هجره عصام العبدالله، لا يزال في مكانه، منذ أكثر من نصف قرن.
ذهب أعداء شارع الحمرا، بسينما الحمرا وبالكافية دي باري، وبالوينمبي وبالمودكا و بالهورس شو وبالبيكاديلي. وبتقاطع مستشفى الجامعة وبتقاطع عبد العزيز وبتقاطع جاندرك، ذهبوا بشانزليزيه الحمرا وبباريس الحمرا، وإعتصم كشك نعيم صالح للصحف متأهبا، بشارع الحمرا، دفاعا عن ثقافة شارع الحمرا، ولو على بلاطات مقفرة.