..يبدأ موقع ” ميزان الزمان ” الألكتروني الأدبي بنشر سلسلة قراءات أدبية قيّمة للكاتبة والشاعرة د. لارا ملاك تحت عنوان ” انعكاس ” التي عرَّفتها د. لارا ملاك بالقول :
بعد قراءة نصٍّ أعجبني حتّى الثّمالة، أرغبُ لو أخاطب اللّغةَ فيه كي أسكبَ عليها عاطفتي. تباغتُني هذه الرّغبةُ دائمًا، وتلحّ عليّ حتّى صرتُ أكتبُ نصًّا للنّصّ، وأشعر بأنّ ما أنتجُه انعكاسٌ… حين ينعكس ضوءٌ في المرآة لا ينتهي، بل يطلّ على مرآةٍ جديدةٍ كلّ مرّةٍ. هكذا يكون وجوده واستمراره. سلسلة “انعكاس” مقالاتٌ هي انعكاسُ نصوصٍ لمعَتْ في وجداني حين قرأتُها كثيرًا حتّى قرَأَتْني. وها أنا أطلق نورها من جديدٍ وأحمّلُه معناي، وعاطفتي، وانتصاراتي، وهزائمي.
..وهنا الحلقة ( 1 ) من سلسلة ” انعكاس ” وقد حملت عنوان ” البحر ” ( من وحي نصّ “موت البحر” لغابرييلا مسترال) :
“البحر”
( من وحي نصّ “موت البحر” لغابرييلا مسترال)
-×-×-×-×-
سألتُ شجرةً يابسةً “كيف مات فيكِ البحر؟”، فلم تجب. يكفي أن يكون الموت إجابةً صارخةً لا صوت لها. كيف يموت البحر فينا؟ يموت حين نموت، حين ننسى أن نحرّك الموج كلّ صباحٍ مع جفنينا. كأنّنا نقطع وجهنا، لنصير بعينٍ مفتوحةٍ وعينٍ ميتة.
مات البحر. ترَكْنا كلَّ هذا السّمكَ في الماضي حتّى غرِق. هذا السّمكُ لحْمُ أحلامنا، وتوقنا، ونجاتنا.
شطآن البحر فينا يدٌ تقفل الأبوابَ، أو تفتحها، أو تضمّها، أو تكسرها، أو تنساها… مفاتيح لا تستحقّ كلّ هذا العبور، أو نصف هذا السّفر. الشّطآن بحارٌ أخرى، أناسٌ علّمونا أن نسبح، ولم يعلّمونا كيف نتوقّف عن اللّحاق بهم كلّما استلقوا تحت الشّمس غير آبهين.
على البحر يثمل نورسٌ، يشتاق لعنبٍ لم يولدْ بعد. يرمي قصاصةً للرّاحلين الغائرين في المدى، وقد كُتب على ريشه قولٌ كثير. لعلّ القول نبيذ الموعودين.
الوداعُ أن تغرق الوعود ويبتلع الماءُ أنفاسَه. أن يكون هذا الجسمُ صدًّا يلجم الماء في العيون. النّورسُ بياضٌ حادٌّ يقطع صفوَ السّفر ولا يسافر، يشهد تلويح القاطنين وانحناءة الرّاحلين، ولا يدري أين هو من هذه المعركة.
نجا ذاك النورس من زهد الذّارفين، نجا من مصير البوصلة الّتي تفتح الطّريق وقدمُها مكسورة، وترسم الجهات ولا جهة منها أو إليها. نجا ولم يعلم يومًا أين يبدأ البحر وأين ينتهي، ولم يعلم أنّ في آخر حقلٍ بعيدٍ ساقيةً نقيّةً تستحقّ أن تكون مرآته، أو أن يكون يديها العاليتين.
كان البحر إجابةً عظيمةً يسترها عن عينيكَ سؤالٌ عظيم. صار جمالًا ناعمًا يكفي أن نراه حتّى نعلم أنّنا هنا وأنّ الحبّ هناك.
هو صمتُنا على شكل ماء، حين قرّرنا أن نحيد عن اللّغة، أو أن نتركها ترتاح قليلًا. تهاوت كلماتُنا، واستراحت في قارورة التّكوين حدًّا يظنّ ألّا حدّ له.
البحر عاصفةٌ تقلعُ حين يجتمع الحيارى شاخصين على الشّاطئ وقد خلعوا عنهم ارتجافهم. هو عاصفةٌ تنطفئ حين ينتهي الصّخر من صلابته، ومن حنينه إلى تلك التّربة. يرتفع الماء وينخفض، واليباس يقيس يديه كلّ دقيقتين، أو يقيس النّاس وهُم يتمايلون معه أمام الماء قلقين ثابتين. لعلّه ينتظر ارتطامهم بعمقهم، أو اندماجهم على صخرةٍ في عناق.
البحر فينا إلهٌ لا تنتهي ضرباته، أو قلبٌ يعُدّ طرقاته على هذا الصّدر. وليس للصّدر إلهٌ يجيد دحضَ الصّلاة، أو طرد روحٍ حفظت لعبة الموج.
لنا من البحر شفاهٌ تعرف طعم الملح. نحن، أصحاب الشّفاه المالحة، نرقص على جراحنا، أو أوهامنا الموجعة. نحن، المالِحين، تأكلُنا الأرض كلّما عَضَضْنا شفاهنا ندمًا أو شبقًا وتعثّرنا بطعمها.
يبدأ الموج من رقصنا، لنا ساقٌ مدٌّ وساقٌ جزرٌ. نكرّ ونفرّ على هذا الأبد السّائل، ونظن لوهلةٍ أنّنا قد نُحمَل على غيمةٍ حين نتبخّر. وقد نصير إيقاع الرّياح، ونراقص بقايا البحر في السّحاب. هذه الموسيقى دورة حياةٍ حين نسمع نبضنا.
الحبّ في البحر جسدٌ مستجدٌ يلمع. ليس فيه انعكاس الضّوء من جسم تمثالٍ ينكسر على أصغر حائطٍ، بل فيه تماهي النّور مع المرآة، حتّى لا تبقى صورةٌ إلّا وتجد طريقها إلى سطح الماء، إلى عمق المعنى.
قناديل البحر حين تترك أجسادها ينطفئ الموج. يصير شرسًا على الصّخور أو ناعمًا نائمًا، ولا يقوى في الحالتين على ممارسة الحبّ. يلاطم خيالًا في البعيد يوحي بتلك الصّحراء. لأنّنا متنا عن المعنى، لم يبقَ إلّا شمسٌ قابعةٌ في البعيد. الصّحراء عمياء، تقول غابرييلا، عساها لا تكون صمّاء أيضًا، فلي صبّارةٌ هناكَ، وبين أشواكها صوتٌ كثير، ولي جفافٌ يصرخ كلّما لعنتْه الذّاكرة.
نعلم، يا غابرييلا، أنّ البهجة ليست طعم الصّبّار ولا طمأنينته، وليس لديه أدنى أملٍ بالرّحيل، وإن مات عطشًا. لكن، ربّما كان لنا في فيئه ظلٌّ قديمٌ حين اعتدْنا أن نحبّ، وأن نرحل في زمنٍ واحدٍ بلا رحمة.
بين الأفق والصّخرة هنا روايةٌ لم نقرأ أوّلها من الحبّ، ولم تلحْ من المدى نهايتُها بعد. هو العارف أنّها لم تولد بالضّرورة هنا، وأنّها ثابتةٌ في الوهم فقط. أمّا في الوقيعة، فهي صدٌّ يقفل حواسّ السّبيل عن ضربات الماء. هي أقوى من الانجراف، لكنّه يمرّ فوقها وهي تثبتُ تحته، كأنّه يفرغ شبقه فيها، وكأنّها تمارس نفسها معه.
هذا الأفقُ العالِمُ الأوّل أنّ الصّخور رميات نردٍ يحدّد قدر المياه، والتواءاتها السّائرة عبثًا.
صحيحٌ أنّنا لم نملك البحر، ولن. وصحيحٌ أنّه الأكثر قدرةً على القبض علينا، وعلى أحلامنا، وأنّه حين يريد يعيدنا إلى الأنهار. فنحن في انسياب السّائل الحرّ خطّ زمنٍ يبدأ، ويكاد لا ينتهي. لكن، يكفي أن يُفرج عن أفكارنا حين يشربها عرقُ شجرةٍ وقفت صدفةً في الطّريق. يكفي أن أقول لأحدهم إنّني أحبّه كي يسكت البحر خشوعًا وإن للحظة.
حين تطلق قبضتَكَ عنّي أيّها البحر، سأعود إلى النّهر من حيث أتيتُ، حيث للهدوء مواسم. وقد يكون هذا ما أحتاجه كي أطمئنّ على حبٍّ مات، وكي أستكين قربه، وأطرح روحي حرّةً من الذّاكرة.
لكَ صمتُك حين تضربنا أيّها البحر. هكذا نشكّ في هدوئنا أكثر. نحن هادئون حتّى استفاقة الحلم علينا حين ننام، وغاضبون جدًّا حتّى فقدْنا اللّغة. نحن بلا أجنحة، هكذا حكمت علينا الأشجار حين طردتْنا من أغصانها ومن منازلها وشرفاتها. هكذا فقدْنا زَرْعَنا حين لم نعد نُطمَر، ولم نعدْ نغرق. أيُ ترابٍ نحن إذًا وأيّ ماء؟
نحن قبيلةٌ هزمتْها اليابسة حين فرّقتنا ألوانًا. فوق الماء نستنشق الهواء حتّى نُميتَه، وتحته يُميتنا الحنين إلى زفراتنا، فتُبَدِّدنا الأحاديث والشّعاب. يهين الموجُ أشرعتَنا، بعد أن أمعنّا في إهانة الرّحلة. لم أعلم يومًا أنّ الرّحيل فرديٌّ وإن كنتَ معي. قد أقول لكَ هواجسي، وقد تحتسيها في فنجان قهوتك، وقد تقبّلني بعدها، لكنّني وحدي في المنام، وأنتَ وحدك خلف جفنيك. هكذا نُهين المركب، وننسى الطّريق.
هنا بين البحار نشعل الماء تحتنا، ونلوك رماد أيدينا. أطلقَنا هذا اليمُّ إلى فسيحِ ما نعلم وما نجهل، ونحن نجيدُ شيَّ المعجزات والموت فوقها.
حتّى في الموجة قد أكون أسيرتَكَ أو أسيرةَ ما كنّا، ويبقى فقط أن تجاريني حين أسقط وألوي كاحلي، حين أهيم عن جسدي لألاحق الشّمس.
أيّها البحر أنتَ جسدي إذ أراكَ في المرآة، وأعرفُكَ حينًا ولا أعرفك. أقول فيكَ الكثير وأنا أجهلُكَ. لا أرى منكَ ظهرَكَ، ولا ترى ظهري أيضًا، مهما استدرْنا. لكن، وجهُكَ كوجهي لا يكفي ولا يُجدي حين أريد أن ألتقطَ التّجريد أو أن أُطْلِقه.
..نص جبراني التأثر والنمط فيه الكثير من الفلسفة الوجدانية والتأملات ، نحتار على أي فقرة نكتب تعليقنا ، ربما المثال الجبراني قد تجسد أكثر في هذه الفقرة التي قالت فيها الكاتبة : “لكَ صمتُك حين تضربنا أيّها البحر. هكذا نشكّ في هدوئنا أكثر. نحن هادئون حتّى استفاقة الحلم علينا حين ننام، وغاضبون جدًّا حتّى فقدْنا اللّغة. نحن بلا أجنحة، هكذا حكمت علينا الأشجار حين طردتْنا من أغصانها ومن منازلها وشرفاتها. هكذا فقدْنا زَرْعَنا حين لم نعد نُطمَر، ولم نعدْ نغرق. أيُ ترابٍ نحن إذًا وأيّ ماء؟”
لا يتسع المجال للتحليل هنا ، لكنني أنصح الكاتبة أن لا تقول في عنوانها ( مستوحى من ) بل ( رسالة إلى غابرييلا مسترال) لسبب بسيط وهو أنّ للكاتبة منهجيتها الخاصة المبتكرة ..