” عَيْنَاكِ جَمْرٌ وَحَنِين “
قصيدة الشاعر د.محمّد محمّد خَطّابي *
-×-×-×-×-
آلَمَنَا التِّرْحَالُ والهِجْرَان
وأضنَانَا التّجْوَالُ والحِرْمان
وفاتنا أنَّ الذي
يُحبِّبُ إلينا الأوطانَ
هُنيهَاتٌ ولحَظاتٌ وثوَان
قضّيناهَا فى جَذلٍ
من عَيشِ سَعيدٍ
فى شرْخِ عُمْرِ بَعيدٍ
ورَيَعَان شبَابِ عَنِيدٍ
وهكذا أبكتْنا يا صَاح
مَتاهَاتُ الغُربة والبِعَاد
وأضحتْ تمضي السّنُون
تطوي بنا المَسَافاتِ والأزمَانَا
كئيبةً، حسيرةً
مُسرعةً، كسيرة طوراً
وئيدةً حَزينةً أطواراً
وتمضي أيّامُنا بِلاَ عوْدَة
وتنقضيِ ليالينا بلاَ رِجْعة
وَتُمَزّقُ النّوىَ نِياطَ الأفئدة
ويقضُّ الطّوىَ بلا رحمة
عَاصِبي البُطون والأوْرِدَة
*****
عينَاكِ جَمرٌ مُتّقدٌ وَحَنِين
وَوَترٌ نَابضٌ غَامضٌ وأنِين
عيناكِ وطنٌ آليتُ ألاَّ أبيعَه ،
“وألاَّ أرىَ له يدَ الدّهرِ مَالكَا،
وَحبّبَ أوطانَ الرِّجَالِ إليهِمُ ،
مآربٌ قضَّاهَا الشّبابُ هُنَالِكَا “
*****
و نحنُ ما بَرِحْنا
فى كلِّ يومٍ وفى كلِّ ليل
” نطيرُ من منفىَ إلى منفىَ
و ننتقلُ من بَابٍ إلى بَابْ
ونذويِ كما تذويِ
الزنابقُ فى التّرَابْ “
وَعلىَ حِينَ غِرّة
يدعُونا الحُبُّ والحَنين
للعوْدة إلى ينابيعنا الأولى
إلى جذورنا الضّاربة
فى عُمق الأرض والثّرىَ
وَإلى خِلْسَاتِ غفوَاتِ الكرَى
وما انفكّت أفئدتنا تنتقلُ
” حيثُ شاءت من الهوىَ
فمَا الحبُّ إلاّ للحَبِيبِ الأوَّلِ،
وقديماً قيل فى الشّعرِ الجَميلِ :
كَمْ مَنْزِلٍ فى الأرْضِ يألفُه الفتىَ،
وحَنينُه أبداً لأوَّلِ مَنزلِ “
*****
وفى متاهاتِ أضغاثِ أحلامنا
تُنازِعُنا الأنفسُ إلى الأوطان
بعد عَناءٍ وغِيَاب
ومُكابداتٍ وسَرَاب
ويَبَابٍ وخرَاب
واستلابٍ وعَذابٍ
*****
وتنبضُ فى أعيننا
مَيازيبُ الدّمُوعْ
وتجفّ مآقينا
وتخفتُ الشّمُوعْ
وتفيضُ فوّارَاتُ الظمأ الهَلوعْ
وتفورُ شرايينُ الحَشَا والضُّلوعْ
هوىً وجَوىً وصَبَابةً وخُشُوعْ
وفاتنا حَنَقاً وكمَداً أوَانُ الرُّجُوعْ
فجَالتِ الأعْيُنُ فى السَديم الأزرَقْ
وتاهت الأنفسُ فى مَخدَعِها الأعمَقْ
ترجُوها أمراً فى آخر المَدىَ
هوَاجسَ شوقٍ فيّاضةٍ تتدفّقْ
فإذا حنايَا القلوبِ تتفتّقْ
ونبضاتُ الجَنَان تتألّقْ
وخفقاتُ التراقي تتمزّقْ
*****
تناشدُها عودةَ الحيَاة
فى بَعْثٍ جَديد
وفى ثَوْبٍ قشيبٍ
و فى عَيشٍ رَغِيد
ومن أعمق أعاميق الرُّوح
تفيضُ خفقاتُ البَّوْح
فى فرَحٍ ومرَحٍ
وغِبْطةٍ وانشراح
*****
ها قد أدركت قنَادِيلِ اللَّيلِ الطويل
دياجيَ غسَق الفَجْرِ العَلِيل
وعانقت ضَوْءَ الصّباحِ الجَميل
وناجت نَسَمَاتِ النّهار البَلِيل
وَ أخيراً “خَفَّ القطينُ،
فراحُوا منكَم ، أوْ بَكَرُوا..
وأزْعَجتهمْ نَوىً
في صرفْها غِيَرُ“
وطابَ المَرَام
وَصَمَتَ الكلام
وتوَارىَ المَلام
واخْضَوْضَبَ المُدَام
*****
وتضمَّخ المَآب
فلم يبقَ لنا
فى آخرِ المَطاف
سوى الإجهَاش بكاءً
فبكينا على مَضَضٍ،
بكينا علىَ سِرْبِ القطا
إذ مَرَرْنَ بنا ،
ومثلنا بالبُكَاءِ جَديرُ،
فقلنا والدّموعُ تنهمِرُ
” أسِرْبَ القطا
هَلْ منْ مُعِيٍر جَنَاحَه..؟
لعلِّنا إلىَ مَنْ
قَدْ هَوِينا نطيرُ “..! **
****
****
** – الشكر العميق لضُيوف الشّرف الذين ضمّخوا هذا البوْح بعطرِهم الفوَّاح ، وإطلالاتهم النديّة من شعرائنا النوابغ وفرسان الإبداع: قيس بن الملوّح، أبو تمّام، ابن الرّومي،البيّاتي، والأخطل.
-تحريراً في 18 أكتوبر 202. قبالة شارع (شارل بودلير) على عتبة الضفّة اليُسرى لنهر “السّين” بمدينة الأنوار باريس التي ما فتئت تطفو على ثبج واديها ( أزهار شرّه ) وما انفكّ الخلود يسبح في أغواره .