–قراءة نقدية في قصّة (عرس وردة) للكاتبة التونسية سليمى السرايري
لقلم الناقد السوري صادق حمزة منذر
~~~~~~~~&~~~~~~~~~
ليس لدى الإنسان أكثر من أمنيات يقدمها ويسعى في سبيل تحقيقها , تساعده أو تقف حائلا دون تحقيقها الظروف والأحداث وربما أشخاص مختلفون .. أحباء وأعداء يساهمون من حيث يدرون أو لا يدرون في تحقيق الأماني أو في تحطيمها .. لتشق سيرة الإنسان طريقها في خضم الحياة وفي زحامها ..
ويبقى هناك تأثيرات كثيرة أيضا على الآراء والمواقف يمكن أن تكون للمجتمعات إحدى هذه التأثيرات فالمجتمع بخصوصيته كبيئة اجتماعية
(مجتمع المدينة أو الحي أو الجامعة أو المدرسة أو العمل أو حتى مجتمع رقمي ما) له تأثير كبير في تشكيل الآراء والمواقف لدى الأفراد رغم أن هناك الكثير من العناوين الإنسانية والقيم الأخلاقية العامة مثل الخير والجمال والأمومة والعدالة .. إلا أن هناك فروقا واختلافا في تناولها باختلاف هذه البيئات ..
ومن التأثيرات المهمة أيضا في الآراء والمواقف الإنسانية تأثير الجنس البشري .. فالأنوثة والذكورة لابد أن يكون لهما موقفين متأثرين بهويتهما الجنسية .. خصوصا في ظل مجتمع ذكوري يحمل الكثير من الخطايا والظلم والاستبداد بحق نفسه كمجتمع قبل أن تكون بحق الأنوثة .. ولهذا تتكون المواقف تحت تأثير كل هذه المؤثرات الخارجية والداخلية على الإنسان وتستمر رحلة الحياة وسط متناقضات لا تنتهي ..
في قصة (عرس وردة) اختارت الكاتبة الطبيعة بمكوناتها الجمالية مسرحا (البستان .. الزهور .. الاخضرار الطيور .. الماء) وهذا تفاؤل كبير تضعه الكاتبة إطارا للقصة فللطبيعة صورا سلبية كثيرة وإلى جانب جمال البحر وسكون شواطئه مثلا تظل موجاته العاتية الغاضبة تهدد بإغراق كل شيء وتشهر براثن القتل..
ومن الدقة في التركيز على مشهد البداية انطلقت الكاتبة من حالة السكون .. سكون المكان .. وكـأنها لحظة مخاض ولادة الحدث وهذا وضع مثالي تفتح عليه ستارة الحدث مبتدئة بفعل الرواية كان وراويا خفيا لم يقدم نفسه وبقي مجرد صوت شفاف يملأ خشبة مسرح الأحداث ويقدم المشاهد وأبطال العرض ..
(كان السكون يعمّ المكان .. وقد خرج البستان من صمته المعتاد.. )
وقدم الراوي البطل الأول ( البستان ) بصورة انفعالية جعلته يمزق صمت وسكون المكان )..
ولكن الانفعال كان ايجابيا فقد كان مظاهر احتفالية جمالية تشعل المشهد بحيوية صارخة تمزق صمت المكان بالفعل .. وليس هذا فقط .. بل إنها تضفي على البطل وعلى الاحتفال نوعا من الطقوسية السامية
(تجمّل وارتدى حلّته الخضراء فاصطفت الأشجار الواحدة تلو الأخرى احتراما له)
وهذا التقديم للبطل الأول يجعله يقترب كثيرا من شخصية الرجل الشرقي في مجتمعنا الذكوري حيث يحتضن ( يرتدي ) الرجل الإناث التي تنتمي إليه وهذا يرسم صورة تقترب من فكر الحرملك الاستعماري العثماني المتخلف ( المتلفع بعباءة الدين ) والذي ما زال يستعمر العقول في كثير من مجتمعاتنا العربية .. ونتابع مع الراوي …
(حطّت العصافير الصغيرة الملوّنة على كف المساء
وهرولت الأسماك من أحواضها حتى لا يفوتها عرس الوردة هذه الليلة)
لقد تم تقديم البطل الثاني ( الوردة ) بشكل خجول بلإشارة إليها من خلال الحدث – عرس الوردة – في حين كان حضور البطل الأول ( البستان ) صريحا وصاخبا .. فالوردة هنا ظهرت بهذه الصورة الخجولة كأصدق تعبير عن دور المرأة في حياتنا الذكورية الصاخبة .. إذن بات واضحا أن ما قدمته الكاتبة وبمنتهى الدقة والحرفية كان يرسم صورة واقعية جدا للعلاقة بين المرأة والرجل في مجتمعنا رغم هذا الإطار الكرنفالي للطبيعة بمكوناتها الجمالية الإيجابية الذي اختارته للقصة ..
ويبدأ الحوار مع صوت الوردة الناعم معرفة عن نفسها .. (أنا)
وكان التعريف مأساويا .. فهي تعرف نفسها بماذا ..؟؟ بانتمائها إليه
(أنا من أحيا أعراسه ) .
في الحقيقة أن العرس هو طقس احتفالي في مجتمعنا .. تعيشه وتزينه المرأة وينسب للرجل
وتلك أولى النوافذ تفتحها الكاتبة على المأساة لنتابع ..
– قالت الوردة :
(أنا من أحيا أعراسه ومن وهب اللّؤلؤ لعينيه
في حمرتي، ماءٌ و ترانيمُ وقصائدُ تفيض أقحوانا )
وتتابع بعد ذلك عرض مأساتها وتقدم حجم عطائها وتفانيها واندماجها في عالمه ( عالم الرجل ) ولكن جحوده كان بالمرصاد لينفيها في أقرب فرصة خارج حدود جنته . . لنتابع ..
( أنا أميرة العبير خذلتني الأقنعة الملوّنة فمات الربيع على جذعي.
كيف أرقص الآن على سلّم العشاق؟
و أعبر بضفافي إلى جهة الشمس؟ )
ويستمر الحوار المشهدي مع قهقهة البطل الأول ( البستان – الرجل ) كأصدق تعبير عن صورة الرجل صاحب السلطة الذي في يده سلطة الفعل ..!! هو لا يحتاج أن يتكلم فالقانون يبيح له أن يضم إلى حريمه أو ينفي منهن ما شاء بلا رحمة ولا ضمير .. فهاهو يقهقه وينفيها من جنته .. ولكن المؤسف جدا أن ( الوردة – المرأة ) بقيت مندمجة في عالمه ومرتبطة به وهكذا يكون قد نفاها من جنته إلى سجنه ليقضي عليها .. فقد أغلق على نفسه – وهي جزء من نفسه – ما يسد عليها طاقة الحياة .. لتنفجر بعد ذلك مشاعر الحزن والألم لتستعرض زيف ما كان في الذاكرة والقلب .. لنتابع ..
(ضحك البستان و أغلق على نفسه نافذة الهواء الوحيدة التي تتنفس منها الوردةُ. كان يعرف أن الموت سيغمرها و أنّها ستنتهي تحت أقدام الصدمة.
كاذبة هي مرايا الأمكنة التي مازالتْ تمنح للذاكرة شذى غريبا قريبا إلى القلب.
تلك المرايا ، مازالتْ تدوّن” أوراقـًا مسافرةً” في سجلّ العابرين. )
وفي أوج اختياله نطق ( البستان – الرجل ) مباهيا بنفسه وقدراته وسلطاته وحقوقه العليا التي لابد أن تحفظ له بالاستمتاع بضم أولفظ آلاف الورود المتوفرة فقط من أجل متعته وتحقيق رغباته متمثلا فكر الحرملك العثماني المقيت بكل تفاصيله .. ويتابع حواره الصلف وبمنتهى القسوة .. ويحسب للكاتبة هنا هذا الترسيخ للفكرة وبحرفية عالية .. من خلال تقاطع العوالم في مشهدية حوار ( البستان – الرجل ) بين عالم افتراضي رقمي وآخر كرنفالي مسرحي وآخر حقيقي متوار بين العالمين .. لنتابع ..
( قال البستان وقد تقاطر حسنا وصوتا من برجه العالي مزهوّا بصولاته وجولاته في عالم رقميّ :
متى تدركين أيّتها الفوّاحة أنّك مثل آلاف الأزهار المنتشرة على الشبكة، الذابلة واليانعة ، الحقيقيّة والمزيّفة ، الوليدة والعجوز ؟
و أنّك محطّة أقف عندها قليلا ثم أتركها ورائي غير عابئ بقطرات الندى المتساقطة من جسمك الرقيق؟
متى تدركين أيّتها المتوهّجة أن ألوانك لا تعنيني فهي صهاريج بلا ماء؟
اغربي عنّا أيّتها الوردة الجميلة، كفّي عن العطاء والسعادة التي تهبينها للجميع فنحن لا نحتاج كلّ هذا، فالعالم الرقميّ لوحةٌ مزيّفةٌ. )
وكان لا بد بعد هذا الصلف الذكوري من أن تتحرك الوردة الخجولة الجريحة ترد بعد ما لحقها من ظلم وإجحاف بحقها كان لابد لها من أن تغضب وتخرج ما أخفاه صمتها الطويل .. وكان من الجميل هنا أنها
أخذت موقف الندية الكاملة وضعت نفسها ولأول مرة مع ( البستان – الرجل ) بمساواة كاملة (صعدت لأوّل مرّة منبر البستان ) .. ولكنه لم يمهلها أكثر من ثانيتين لينفجر غضبا ويطيح بها ويدوسها عقابا لها على هذه الجريمة الفادحة .. فكيف لهذه الصغيرة أن تضع رأسها برأسه وتساوي نفسها به وهو السيد المطلق ..!!؟؟ ولم تشفع لها كل آيات الجمال والرقة والعذوبة التي تتمتع بها ولا أنهار المحبة والحنان والاهتمام التي كانت قد أغدقتها عليه ولا كل ملاحم الوفاء التي خاضته لأجله .. لنتابع ..
( لملمت الوردة بعض عبيرها المتساقط حولها وبمساواة لتعبّر عن غضبها وصعدت لأوّل مرّة منبر البستان بعد صمت طويل في ثانية أو ثانيتين.
انقلب الطقس وزمجر البستان وأرعد واعتبرها جريمة لا تغتفر فداس على رقّة الوردةِ غير مبال بصراخ أوراقها الشفافة ألما وحزنا.
اعتصر رحيقها بيده الغليظة بلا رحمة وتناسى في خضمّ غضبه كم توّجته تلك الوردةُ بالمحبّة والحنان والاحتواء… كم عانت من الغربان وسواد قلوبها من أجل أن يظلّ اسم البستان يرفرف عاليا)
وأمام هذا الجحود الذكوري البالغ والقسوة الوحشية .. لم يكن من الوردة إلا أن تحتفظ له بكل ما هو جميل
في قلبها .. كانت بالغة العذوبة أمام قسوته ووحشيته وبالغة الوفاء والتسامح .. واحتضنت جرحها في رومانسية الوردة خلال تراجيدية الحدث وهذا أحدث مفارقة كبيرة يقف عندها القارئ للأحداث ..
هل هي مازالت تحبه .؟؟
ولكن ماهو الحب ..؟؟ هل هو عواطف إيجابية متبادلة ..؟؟
فإذا كان كذلك كيف قابلت عواطفه السلبية بهذا الشكل المحب ..؟؟
كانت تصر على رسم موقفها المبدئي المحب بغض النظر عن موقف الآخر .. وهذا قمة الملوكية في السلوك .. وتكاد تقترب من الآلهة .. وهذا يزيد حجم المفارقة أولا لكي تحتفظ بسيف المحبة ترفعه في معركتها الأنثوية لاستعادة حبيبها ( البستان – الرجل) وأيضا ليخلق حشدا تضامنيا لدى القارئ مع البطلة الجريحة ( الوردة المرأة ) .. نتابع
( كانت تحتفظ بنبراته في كيس ملوّن تفوح منه رائحة زكيّة كلّما حرّكته قليلا ، تعبق الأرجاء وتعرّش قصائده فوق أعشاش الطيور فتضيء أعمدة الشبكة ويحطّ الحمام على كفّيها.
لم ترض أن يحتلّ الغرباء باحة قصره وكان لابدّ من أغانيه كي يفوح ليمونا و أكليلا و زعترا بريّا .
كثيرا ما كانت تهمس في غيابه:
هذه دموعي سنابل سوف تكبر في المدى و هذه لهفتي عصافير ملوّنة تنتظرك عند اللقاء) ..
ويأتي مشهد النهاية مكرسا مأساة الوردة وحاملا تعنت البستان وإمعانه في غيه وإصراره على سحقها
وكان هذا المشهد يمثل استمرارية مأساة المرأة في واقعنا .. لنتابع ..
(غير أن البستان، صعد عاليا تاركا الوردة تطوي وحدها حقائب الجمال المحتضر، تتنفّس بصعوبة و النافذة تزداد انغلاق) .
ولكن بعد كل هذا الذي رأيناه .. هل كان هذا عرس وردة ..؟؟ أين العرس ..؟؟ ولماذا اختارت الكاتبة هذا العنوان ..؟؟
الحقيقة أن العنوان كان بمنتهى الذكاء ويستحق جائزة لوحده, فهو يختصر مأساة المرأة الحقيقية .. حيث يصبح هدف حياة المرأة الأول ترقّب عرسها للإفلات من عنوستها ولكن سرعان ما تصل إلى ما بعد العرس والذي يخيب أملها ويحطمها تماما لأنه ليس إلا قفص عبودية آخر لرجل آخر غير وليّها الأول ..
كانت القصة تحفل بلغة شعرية عالية وراقية خلال جميع المشاهد والمفاصل ورغم القسوة في الكثير من المشاهد وهذا ينم عن مقدرة عالية في التعبير وفي رسم الشخصيات ونسج الحوار .. والبطل الأهم هنا
كان الصدق في المشاعر المتدفقة بعفوية .. والمقنعة حتى في تطرفها الإيجابي في مواجهة القسوة ..
كل التحية لك سليمى السرايري كانت قصة رائعة ..
-=-=-=-=-=-=
هنا نص القصة للكاتبة سليمى السرايري :
” عرس وردة ”
كان السكون يعمّ المكان وقد خرج البستان من صمته المعتاد .
تجمّل وارتدى حلّته الخضراء فاصطفت الأشجار الواحدة تلو الأخرى احتراما له
حطّت العصافير الصغيرة الملوّنة على كف المساء
وهرولت الأسماك من أحواضها حتى لا يفوتها عرس الوردة هذه الليلة,
قالت الوردة :
أنا من أحيا أعراسه ووهب اللّؤلؤ لعينيه
في حمرتي، ماءٌ و ترانيمُ وقصائدُ تفيض أقحوانا
أنا أميرة العبير خذلتني الأقنعة الملوّنة فمات الربيع على جذعي.
كيف أرقص الآن على سلّم العشاق؟
و أعبر بضفافي إلى جهة الشمس؟
ضحك البستان و أغلق على نفسه نافذة الهواء الوحيدة التي تتنفس منها الوردةُ. كان يعرف أن الموت سيغمرها و أنّها ستنتهي تحت أقدام الصدمة.
كاذبة هي مرايا الأمكنة التي مازالتْ تمنح للذاكرة شذا غريبا قريبا إلى القلب.
تلك المرايا ، مازالتْ تدوّن” أوراقـاً مسافرةً” في سجلّ العابرين.
قال البستان وقد تقاطر حسنا وصوتا من برجه العالي مزهوّا بصولاته وجولاته في عالم رقميّ :
متى تدركين أيّتها الفوّاحة أنّك مثل آلاف الأزهار المنتشرة على الشبكة، الذابلة واليانعة، الحقيقيّة والمزيّفة، الوليدة والعجوز ؟
و أنّك محطّة أقف عندها قليلا ثم أتركها ورائي غير عابئ بقطرات الندى المتساقطة من جسمك الرقيق؟
متى تدركين أيّتها المتوهّجة أن ألوانك لا تعنيني فهي صهاريج بلا ماء؟
اغربي عنّا أيّتها الوردة الجميلة، كفّي عن العطاء والسعادة التي تهبينها للجميع فنحن لا نحتاج كلّ هذا، فالعالم الرقميّ لوحةٌ مزيّفةٌ.
لملمت الوردة بعض عبيرها المتساقط حولها وصعدت لأوّل مرّة منبر البستان لتعبّر عن غضبها بعد صمت طويل في ثانية أو ثانيتين.
انقلب الطقس وزمجر البستان وأرعد واعتبرها جريمة لا تغتفر فداس على رقّة الوردةِ غير مبال بصراخ أوراقها الشفافة ألما وحزنا.
اعتصر رحيقها بيده الغليظة بلا رحمة وتناسى في خضمّ غضبه كم توّجته تلك الوردةُ بالمحبّة والحنان والاحتواء… كم عانت من الغربان وسواد قلوبها من أجل أن يظلّ اسم البستان يرفرف عاليا.
كانت تحتفظ بنبراته في كيس ملوّن تفوح منه رائحة زكيّة كلّما حرّكته قليلا ، تعبق الأرجاء وتعرّش قصائده فوق أعشاش الطيور فتضيء أعمدة الشبكة ويحطّ الحمام على كفّيها.
لم ترض أن يحتلّ الغرباء باحة قصره وكان لابدّ من أغانيه كي يفوح ليمونا و أكليلا وزعتراً بريّاً .
كثيرا ما كانت تهمس في غيابه:
هذه دموعي سنابل سوف تكبر في المدى…
و هذه لهفتي عصافير ملوّنة تنتظرك عند اللقاء.
غير أن البستان، صعد عاليا تاركا الوردة تطوي وحدها حقائب الجمال المحتضر، تتنفّس بصعوبة و النافذة تزداد انغلاقا.