الحفر على الحرف
( قراءة للكاتب د. قصيّ الحسبن في كتاب ” منام الماء ” للفنانة التشكيلية خيرات الزين )
-×-×-×-×-
تجربة صعبة، هي قراءتي في “كتاب منام الماء- سيرة ذاتية للحروف” ، للأستاذة والتشكيلية خيرات الزين، الصادر عن دار عالم الفكر.
يتصدر الكتاب/ الفسر، تقديم راق، للشاعر والأديب المير طارق آل ناصرالدين، حيث يقول مفتتحا الحفر في منام الماء:
كلما إشتبكت نحلة مع زهرة، ولد العسل. هكذا خيرات الزين، كلما إشتبكت مع حرف من حروف اللغة، ولدت نصوص عسلية.” وأما أنا فأقول: ولدت نصوص بطعم العسل.
ذلك أن كتابها، منجز جمالي، يتحرى المعنى، باللامحدود من الحفر.
أول مرة أصادف اللامحدود الجمالي، أراه يتحدى لا محدودية المعنى، في جزيئية صغيرة إسمها الحرف.
ينهض بين يدي خيرات الزين الحرف، كرجل من العماليق، يؤسس للجمال ومعناه، يحمله على ظهره، سفينة الأبجدية. أو حصانا لإمرئ القيس.
الحرف عند خيرات الزين، حفر في الصوت. حفر في الصدى. حفر في الجمال ومعناه.
الحرف بشراعه، هو الصوت الآتي من جهة البحر. والحرف قافلة من الحبر، او قافلة من الإبل، هوأيضا الصوت الآتي، في السحر، قبيل الفجر، من جهة الصحراء، من جهة البرية، برية آدم، من جهة البر.
تنثر خيرات الزين كنانتها في الكتاب، تعجم حروفها، ثم هي تشكل منها، فتات الحضارات على جسد العالم.
زفير خرائط اللغة. زفير خرائط الصوت. زفير اللون. زفير الصدى، هو كل ذلك وأكثر، كتاب “منام الماء”. يحلم أنه يكلم نسل آدم، منذ آدم حتى اليوم.
هكذا تتحول الحروف، نيازك ، بل مجرات ماء يتصاعد، بخورا مقدسا، في حضارة الصخر الجاثم على الشمس. وفي حضارة الشمس الجاثمة على الصخر.
ينام الماء، يمضغ الوقت. ثم يتقيأه. يحلم بالجمال لتفسير المعاني، كما تصنع الريح: حين تسرق الريم من أضاحي الغيم، وتخلعها على النار، بلادا مشغولة بخيط المطر.
تنام الحروف عند خيرات الزين، على كتف الدرب، ثم تستيقظ مثل السنونو، تتراقص على أشرطة الكهرباء، تصنع معنى الربيع الجميل.
تقول المؤلفة في مقدمة الكتاب: “الحرف إسراء الروح إلى الحياة، ومعراج النفس إلى النور. يربط بين الأرض والسماء”. ثم تقول: “بدأ الحرف صوتا للحب.. هام بين أسراب الغيم… هل يحلم الماء، إلا بالحياة.” ( ص1).
هكذا أصبحت الأرض خفا لسقف الحروف، على يد خيرات الزين، تزيل وشم الأسى عن ضمائر السنونو المعلقة على أشرطة الهاتف، في كتابها، حين يقرر الشعر أن يحرق أوراقه، لينثرها في بلاد الرفض. خارجا من أبواب الجنان، يستعيد الأرض. يكلم الموتى. ينحر قلب الثلج، المتسربل في حروف الساعة الهاربة إلى خليج الشفتين. غسقا مدلهما بغبطة المنام، على وسادة الماء.
الحروف عند خيرات الزين، يتيمة اللحظات ويتيمة النسمات، تفسح لها، لتمر إلى غصون اللغة التي تختنق. تعيد للأبجدية مراقصة الوقت. تعيد للأبجدية مخاصرة الحياة. فتعزف لها سمفونية من صوت الشجر. من نحو غابة ، غابت تحت ضوء القمر.
حروف خيرات الزين، تبحث، من أول الكتاب إلى آخره، عن نهم الريح الموجهة تضرب رمل البيوت. تضرب وجهها. تنسفها، تذريها، ثم تصنع في الآن نفسه، ندف الكواكب الساهرة، وسفن الحياة المترعة بالماء. حتى لا يستطيع الإنسان الهرب من أقداره المتفلتة. يحاول من جديد: يفسر الماء بالماء.
ناي الولوج إلى حروف خيرات الزين ، إلى كلماتها، إلى صوتها، إلى مناداتها، إلى مناشداتها، تجعل القارئ يلبس الصوت . يلبس الأرض. يلبث في مكانه جامدا كعمود سماء. يلبث متهما بالحلم والبكاء. والعيون المصفقة مثل حروف؛ شواهد من طواف حول الخراب.
تقول خيرات الزين في ” طقوس الطاء”:
“حرف سلطانه في الطبائع الأربعة: هواء طائر. تراب طائع. ماء طافح. ونار طامعة….. مرة واحدة طاف طه حول الحرم… مارس طقوسه بطهارة، فتقبل الله طاعته. “( ص 54).
في كتاب “منام الماء”، تجد المؤلفة تتحدث عن كل حرف من حروف العربية، تماما كما تتحدث عن طائر غادر سماءه. عن ديك غادر جمهوريته، إلى بلاط الخنجر. بلاط السلطة المستشرسة. فتأففت الأغاني والآهات التائهة في الحناجر. وصار الأخطبوط يبلط الخيطان، ولهاث الصدر، وصارت العنكبوت تنسج الوقت، حتى تصير مسبحة اللغة أطول من حروف اللغة. ويمل الخنجر عن مناداتها بلغة إسماعيل الذبيح.
تقول خيرات الزين:
” عصفور صغير صعد إلى قصره، في أعالي الشجرة. صدح بصوت صاف…. صنوبرة تذكر الصادقين بسورة ( ص )، وصحف إبراهيم، وكيف إختار الله الصلصال مادة للتكوين.” ( ص97 ).
كتاب خيرات الزين: منام الماء، يقدم مادة قيمة غير مسبوقة، في قراءة حروف العربية، للإستدلال على معانيها من خلال الحفر عن جمالها. وهذا لعمري نوع من الفقه، يضاف إلى فقة اللغة: إنه فقه جمال الحروف وهو إكتشاف لها. تستحق بكل جدارة، أن تحصد براءة إختراعه، براءة إكتشافه، لا فرق.
أوجزت خيرات الزين في كتابها هذا،التاريخ الجمالي للحروف. أسطرته في بورتريهات، ونبذات مختصرة، عن حروف صنعت تاريخ العربية، التي إنتصر بها أهلها على العالم.
بحروف العربية، بجمالياتها، بجماليات معانيها، تمت الفتوح العربية، كما لمست بين دفتي كتاب منام الماء، لخيرات الزين.
“إن الرائد لا يخذل أهله”.