الشعراء والفنانون
من لم يسمع في السبعينيات من القرن الماضي، بهاتين الظاهرتين، اللتين نشأتا معا، واختفتا معا. من لم يسمع ب”شعراء الجنوب”، وب “الفنانون العشرة”، في جنوب لبنان، وفي شمال لبنان.
كان لبنان آنذاك، يخوض تجربة المقاومة الوطنية والفلسطينية، على أرض الجنوب، فإنعكس ذلك في ظهور مجموعة من الشعراء الثوريين، المواكبين لهذة التجربة.
وكان الهدوء يسيطر على شمال لبنان، فإنعكس ذلك في ظهور مجموعة من الفنانين المبدعين الحالمين.
تجربتان متمايزتان، في الجنوب وفي الشمال، تعبران أشد التعبير، عن بيئات الجنوب، وعن بيئات الشمال. وكذلك عن تبيؤ الفن، شعرا ورسما.
عكست تجربة “شعراء الجنوب”، الجو الثوري الذي أخذ في الظهور شيئا فشيئا، مع ظهور حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية.
وعكست تجربة “الفنانين العشرة”، الجو الهادئ والمتأمل، الذي كان يخيم على الشمال.
تصدر شعراء الجنوب، العمل الشعري. تماما مثلما تصدر الفنانون العشرة، العمل الفني.
وملأ شعراء الجنوب الساحة اللبنانية والعربية. ولامسوا إلى حد معقول، تجربة الشعراء الثوريين، أو الشعراء الثوار، في فيتنام وفي تركيا وفي أميركا اللاتينية. بل في أوروبا كلها أيضا، أقله في فترة ما بين الحربين. ومتأثرين كذلك بتجربة شعراء الأرض المحتلة( فلسطين). والشعراء المقاومين.
كذلك، لاقوا الإنقسام الذي أصاب الشعراء الفلسطينيين: داخل الأرض المحتلة، وخارج الأرض المحتلة. فكان منهم من يتأثر بشعراء الداخل: وعلى رأسهم سميح القاسم و توفيق زياد. وكان منهم من يتأثر بشعراء الخارج، وعلى رأسهم محمود درويش ومعين بسيسو.
أما الفنانون العشرة، فخرج معظمهم إلى المدارس الفنية الغربية يهتدون بها. إنتشروا بين باريس ولندن وبرلين. بل بين العواصم الأوروبية، شرقا وغربا. وتعرفوا كذلك على المدارس الفنية الأميركية، وتأثروا بها. ومنهم من تتبع المدارس الفنية التي كانت معروفة في العصر الوسيط، في بغداد ودمشق وتبريز وطشقند. وكابول وباكستان والهند، خصوصا ما نشأ منها في إمبراطوريتي التتار والمغول والصفويين الفرس. ناهيك عن الإمبراطورية الفرعونية، والحثية، وكذلك عن المماليك، و الممالك الصليبية.
وقع الفنانون العشرة تحت وطأة التراث العربي، والأدب الصفوي في تركيا وإيران، وما حواه من أدب ولغة وفن. وما حواه كذلك من إثنيات دينية وعرقية، ومن مواهب مبكرة، لجميع الآداب والعلوم والفنون.
إجتمع الفنانون العشرة، حول الموائد الفنية الغربية، الأوروبية منها والأميركية، وحول الموائد الفنية الشرقية، الوسيطة والحديثة. فنهل كل منهم، من المدرسة التي إستهوته، فتأثر بها، وإنطبعت أعماله، ببصمات فنانيها. فكانت مدرسة العشرة مصفاة فنية، لجميع المدارس الفنية، التراثية الأصيلة، والمجددة والمبتكرة و الحديثة.
ذاع صيت الفنانين العشرة في الأوساط الثقافية، في لبنان وخارج لبنان. فأقاموا معارضهم في العواصم العربية والغربية. وكانوا يزورون الكاليريهات، في كل من نيويورك وباريس ولندن وبرلين. كما تنقلوا ، بلوحاتهم، وأقاموا لها معارض، في بيروت وصيدا وصور، والجبل لعرض أعمالهم، طلبا للإعتراف بها، وبمواهبهم الفنية، التي صدروا عنها.
بالمماثل أيضا، إستطاع شعراء الجنوب، أن ينالوا إعتراف أهل الشرق وأهل الغرب بهم. نسجوا علاقات مع الحركات والحالات الثورية واليسارية. ومع الأممية الإشتركية. فكانت توجه لهم الدعوات، لإقامة الندوات في العواصم العربية. و في روسيا و برلين وبولندا وسلوفاكيا. وكذلك في الصين وباريس ولندن، وكوبا. وكانت زياراتهم وإقاماتهم، موضع إحتفال وتكريم. فكانوا يؤثرون ويتأثرون، بما يرون، وبما يعرضون.
أتت قصائد شعراء الجنوب في مجملها، لتتحدث عن المعاناة التي حلت بالجنوب، من جانبين:
1-الإقطاع الذي إستبد بهم وأذلهم في حياتهم ومعاشهم، وأخرجهم من مدنهم وقراهم و أرضهم ، لشدة الخسف و العسف والتعسف. ولشدة الفقر والبؤس. وكذلك لشدة الإفتقار إلى الشروط الأولية للعيش الكريم.
2- الأعداء الذين تكاثروا عليهم. فصاروا يعيشون حياة النار والحصار كل يوم. فما عادوا يستطيعون الخروج إلى حقولهم ولا إلى كرومهم. ولم تعد، لا الحدود ولا القرى ولا المدن، بمأمن من القذائف اليومية التي تنهال عليهم، من كل حدب وصوب.
كان شعراء الجنوب يعيشون قلقهم اليومي، ويتابعونه ويتبعونه، ويعبرون عنه.
وكان الشعراء العشرة، يعيشون أحلامهم، فيحلمون، تشبها بالرواد، ويسمون فيها، ويحلقون في فضاواتها، ويلحقون وراءها.
كان شعراء الجنوب يبحثون عن “شتلة التبغ”، وعن رغيف الخبز وعن كيس الطحين، وعن الهاجس الوطني المأزوم وعن الخاطر الأدبي المكسور، بين دول أهل الشرق.
وكان الفنانون العشرة، يبحثون عن الواحة والزهرة والحلم بسرير السعادة، بين دول أهل الغرب.
كان لبنان في السبعينيات من القرن الماضي، يعيش الإنقسام في الأحلام. وكانت كل مجموعة من المجموعتين، تنطلق من بيئتها، ومن حاجاتها ومن أحلامها، فترحل إما إلى الشرق أو إلى الغرب، مثل الطيور المهاجرة، تبحث عن منازل لها.