التاريخ: 02/10/2021
المقال رقم: 42/2021
الأرمـــن فــي فلسطيــن
بقلـم: رشـا بركــات– حكايــات رشـا (رايتـش)
هل القدس عاصمة فلسطين؟
طبعاً
هل فيها أرمن؟
طبعاً….
لا زلت أتذكر أجمل أيام طفولتي بنزهاتي مع أبي في منطقة عنجر في بقاع لبنان وخاصة المهرجانات الأرمينية. كنت أعشق شراء الأشغال اليدوية منهم والمرايا بكل شغف…ما أجمل مزيج الألوان في الأقمشة والمهارات في صناعة التحف والحقائب والحلي…أما البسترما، فهي أكلة أرمينية أصيلة لذيذة للغاية…
رحمة الله عليك يا أبي الفلسطيني اليافاوي الذي تربى على عشق الإبداع والإنصهار مع كافة الثقافات وأورثني محبتها، كبحر يافا الذي كان حضن دافىء ومركز حضاري لتلاقي جميع الشعوب….
حكايتي لليوم، عن وجود الأرمن وتاريخهم لكن ليس في لبنان الحبيب، إنما في وطني فلسطين، هذا الوطن الذي تغنى به الجميع عبر التاريخين القديم والحديث.
أما الأرمن، فقد أتوا إلى فلسطين منذ أكثر من ألف وسبعمئة عام كما تشير المصادر المتنوعة والأرشيف الفلسطيني.
الهجرات الأرمينية في أعقاب الحرب العالمية الأولى نحو منطقة بلاد الشام، أدت إلى مجيء ما لا يقل عن 847 أرمينيًّا إلى القدس، حيث كانت مركز استقرار أخواننا الأرمن منذ العام 1893 وكما تشير الأبحاث عبر الإحصاءات العثمانية، أن حوالي 92 أرمينيًّا سكنوا في مدينة يافا وهناك أعداد غير محصورة تتوزع ما بين بيت لحم، الناصرة، عكا وغزة. وصولاً إلى سنة 1945، أصبح عدد الأرمن في القدس ما لا يقل عن خمسة آلاف ولكن العدد بدأ بالإنخفاض التدريجي أثناء النكبة حتى وصل إلى حوالي ثلاثة آلاف أرميني في القدس واستمر العدد بالإنخفاض.
بحسب المصادر الأرمينية المختصة، إن عدد أهلنا الأرمن في مجمل فلسطين اليوم يبلغ حوالي 7500 نسمة. منهم 3000 في القدس و2100 في حيفا و300 نسمة في كل من عكا، الرملة (قضاء يافا)، الناصرة، بئر السبع وغزة. هذه المعلومات وفقا للإحصاءات الأرمينية ذات نفسها ولكن بالطبع كل شيء قابل للنقاش والبحث أكثر فأكثر…
إن قضية الأرمن هي قضية كبرى ولكن السياسات تريد محو الحضارة الأرمينية ما جعل دول العالم تصنّف المجتمع الأرميني وكأنه طائفة. فنجد وللأسف أن هوية أهلنا الأرمينيين أصبحت تعدّ “طائفة”!
أنا ضد هذه التسمية ومع استرجاع الهوية الأرمينية لأهلها بشموليتها وعدم اللعب بالمصطلحات من أجل طمس قضيتهم كما يتم طمس هويتنا واختراقنا ثقافيًّا نحن الفلسطينيين.
ومن هنا، فقد اعتبرت الدول وفق تغيير ال”هوية” الأرمينية ل”طائفة” بأن ال”طائفة” الأرمينية في فلسطين تعتبر ال”طائفة” الثالثة بعد الروم الأورثوذكس واللّاتين على عدّة أصعدة، إجتماعيًا وديمغرافيًا وغيرها.
الجميل في الأمر، أن أحبائنا الأرمن اعتمدوا استراتيجية حياتية تمكنهم من عدم ضياع هويتهم وسط كل المتصارعين. فأغلب الأرمن يتزوجون من بعضهم البعض ونادراً ما نرى زواجات من غير جنسيات. لكن، هذا لا يعني أنهم غير منصهرين بل بالعكس فقد أغنى الوجود الأرميني في فلسطين عدة قطاعات ومن بينها الفنون والتراثيات حتى شكّل نسيجًا واحداً متماسكًا ومترابطًا اجتماعيًا، ثقافيًا واقتصاديًا مع الوجود الفلسطيني. فصار الأرميني الفلسطيني، فلسطيني.
أسس الأرمن في القدس في القرن السابع الميلادي، بطريركية خاصة بهم يحج إليها الأرمن من مختلف بلدان العالم. وهذا باعتقادي، ترسيخ لوجودهم وتحفيز اقتصادي كذلك للوطن وليس فقط ديني. إضافة إلى ذلك، هناك ما يسمى ب “حارة الأرمن” وهي أيضا في القدس في جنوب غرب البلدة القديمة، تبلغ مساحتها حوالي سدس مساحة البلدة. تتميز هذه الحارة عدا عن البيوت المؤجرة للأرمن، بوجود دير خاص بهم، مدرسة، متحف ومركزأو عيادة طبية.
مدرسة الأرمن الشهيرة في القدس، “تركمانشاتس”، هي ثانوية تم بناءها عام 1924 على يد أبناء هذه الهوية الجميلة، الأرمينية الفلسطينية. (لن أستعمل مصطلح طائفة لأنني ضد تذويب الهوية). وهناك مدرسة أخرى مختصة بالتعليم الديني والرهبانية.
هل يتحدث الأرمن العربية؟
مما لا شك فيه أن أهالينا الأرمن في فلسطين هم أيضا فلسطينيين ويتكلمون العربية، فقد انصهرنا انصهارًا حبّيًا عبر التاريخ ولكن يفضّل الأرمن إبقاء لغتهم واستعمالها فيما بينهم حفاظًا على تلك الهوية المجروحة وهذا بند آخر من استراتيجية إثبات الوجود لديهم والذي يجب أن نحترمه بشدة.
شرقيتنا تجمعنا!
الأرمن هم مشرقيون ولديهم عادات مشرقية كالتي لدينا ومحببة كثيرًا حتى في المواضيع العائلية نجد مثالهم الشعبي كأمثلتنا: “الرجل هو الرأس والمرأة هي الرقبة”.
هل الأرمن مع القضية الفلسطينية؟
الأرمن هم أيضا فلسطينيون، وهذا يعني أن هناك أعداداً أرمينية قد اندمجت مع كثير من الفئات والأحزاب الفلسطينية المتنوعة عبر سنوات الثورة وصولًا إلى يومنا الحالي بغض النظرعن عدم التدخل السياسي بالشكل المباشر لكثير من أبناء الشعب الأرمني الفلسطيني ولكننا نجد هناك نوعيات كثيرة مثًلت فلسطين والأرمن في فلسطين ودافعت عن القضية الفلسطينية كما ورفضت التقسيم المناطقي ومحاولات التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي، فمثلاً السيد مانويل حساسيان، الذي تبوأ سابقا منصب سفير فلسطين في بريطانيا والناطق الرسمي بإسم الوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد عام 1991، السيد ألبرت أغازريان.
كما نعلم جميعًا عن التفوق الأرمني في الصناعات الحرفية حول العالم، هكذا الوضع أيضًا مع العمل المحترف لأخواننا الأرمن في فلسطين. ومما لا شك فيه، تميّز الأرمن بصناعات الأحذية والهدايا وقد كتبت في مقالتي السابقة بعنوان “رعد وصورة” أن المصور الفلسطيني والعربي الأول “خليل رعد” كان قد تتلمذ في بادىء الأمر على يد المصور الأرمني الشهير في القدس، “جاربيد كريكوريان”. ولا يمكن أن ينسى التاريخ أول مصنع للسيراميك في القدس في عهد الإنتداب البريطاني، أسسته الأيادي الأرمينية.
“نوبار أرسليان”؟
إن هذا الإسم ليس بمجرد إسم مرّ في التاريخ. هو شيخ الصيادلة في القدس والذي كان يقوم بصناعة الأدوية بيديه، فسلمت الأيادي الشافية…
يعاني الأرمن اليوم من الظلم في فلسطين كما هو حال أهلنا الفلسطينيين، تضييقات مهنية وعملية وحياتية عليهم تماما كما يحصل مع العامل الفلسطيني مما أدى إلى انخفاض نسبة التصنيع والتقليل من عدد الحرفيين والمحلات التجارية الحرفية وغيرها. يعود ذلك لأسباب متعددة كنت قد ذكرتها سابقا في مقالتي وحكايتي بعنوان: الحرف الفلسطينية إلى أين؟.
من ناحية أخرى، نجد “دير مار يعقوب” في القدس، فيه “مكتبة” شهيرة تم تأسيسها سنة 1929 بتمويل وتبرع من الأرميني غولبنكيان. تحتفظ هذه المكتبة بوثائق تاريخية مهمة جدًا سأكتب عنها لاحقا. وفي الدير أيضاً متحف تم افتتاحه سنة 1978. أما “مطبعة الأرمن” فقد تم تأسيسها عام 1848 بيد الأرمن الغريغوريون في القدس (سأشرح عنهم في مقالات أخرى). أما المستشفى الأرمني في القدس فقد تأسس سنة 1957، سبقه تأسيس الجمعية الأورثوذكسية سنة 1931 مما انبثق منها تأسيس الأندية الترفيهية التثقيفية الأرمنية المتنوعة وكذلك الرياضية كالهومنتمن مثلًا….إضافة إلى مركز “آراكس” الذي هو نشاط أرميني (أرمني) كاثوليكي.
كما ذكرت سابقًا إن أكبر استقرار للأرمن في فلسطين كان مركزه القدس عاصمة فلسطين، ومن هنا نستطيع أن نفهم سبب وجود أغلب المراكز الإقتصادية فيها.
أختم مقالتي/حكايتي لليوم، بالترحم على روح أبي اليافاوي الذي كان سببًا بمعرفتي عن مدى أهمية “الأرمن في فلسطين”، سلامي لأخواني الأرمنيين الفلسطينيين…