وشاية الشعر
أعظم بل أخطر وشاية في التاريخ، هي وشاية الشعر. والشعراء لا يكونون شعراء بالمعنى الحق للكلمة، بل بالمعنى الحرفي للكلمة،ما لم يؤلفوا حقا مجمعا للوشاة. ما لم يكونوا حقا، مجموعة من الوشاة. صنعتهم الوشاية على الناس، في العصر الذي يعيشون فيه.
لم يتسلم عصا الملك على الناس، أحد قبل الشاعر. فالشاعر أول ملك على الناس. رشحه الشعر. وقبل الناس ترشيحه للملك، لأنهم لم يجدوا أعظم منه. لأنه كان معظما في عيونهم. فصار ملكا عليهم. وكان سلاحه الشعر.
كان شعره يشي بالناس، فيموتون. يشعرون بقسوة الوشاية عليهم. يشعرون بغضب الوشاية عليهم. يعيشون حالة الموت البطيء قبل أن يموتوا بغيظهم من وشاية الشاعر. أو يعيشون بخير وشايته لهم. ويصيبون حظهم من الحياة، بحسب ما وشى لهم.
كان الشاعر يحكم في الناس بالوشاية. تماما كما كان يحكم الناس كل الناس، بالوشاية.
لا سلاح عنده إلا الشعر. إستخدمه غاية الإستخدام. وإستنفده غاية الإستنفاد. وإستعمله سيفا صارما مصقولا مسلولا، في رقاب الناس.
كانت الوشاية حشوة سلاح الشاعر، الذي لم يكن له سلاح إلا الشعر. وكان تسديدها صائبا لا يخطئ الهدف. ولهذا كان الناس يحبونه و يرهبونه في آن.
إئتمر الناس على الشاعر لقتله، حين ضاقوا بشعره. حين ضاقوا بوشاية شعره. أرادوا أن يكشفوا سر سحره، في العيش وفي الموت.
كان “قابييل” أول شاعر في التاريخ تسيد على قومه بشعره. وكان “قايين” أول قاتل. أراد قتل الملك وإنتزاع عصا الملك، بالقوة الغاشمة. كان ذلك أول إنقلاب على الشعر.
أسس هذا لظهور حاكم يحكم بالسيف. يواجه حاكما يحكم بالشعر. وحسمت بعد ذلك معركة “الأخوين” في الصراع على الملك.
منذ ذلك التاريخ المبكر للإنسانية، إحتدم الصراع على الملك، ولما يزل، بين الأخوين الملكين: الشعر والسيف.
وتقدم العصر. طور السيف نفسه، فصارت له إدارة. حاكمية. أما الشعر فظل رسالة.
ألذلك إذا، أنشد المتنبي أمام سيف الدولة:
“شاعر السيف، خدنه شاعر الل…/فظ. كلانا رب المعاني الدقاق”.
لم يعرف الشعر الدم، إلا مغدورا به. حينما كان الشعر يحكم بالوشاية.
الوشاية رادعة، رافعة. هاجسها العدل والسلم. بينما السيف يريق الدم.
طور السيف آلة القتل، وجعل الشاعر في ظله. صارت الرسالة فيما بعد، ظل السيف. وراء السيف.
صارت الرسالة، تبرر القتل، حين كان السيف يوغل في القتل.
صارت وشاية الشعر، أخطر من القتل، لأنها تمهد له، وتبرره، وتكون فيما بعد خطاب القتل.
حولت الحداثة الحكم، من الملك العضوض، إلى الديمقراطية والعدالة الإجتماعي.
كذاك حولت الحداثة الشعر من الوشاية القاتلة، إلى الوشاية الواصفة. صارت وشاية الشعر، تصف الديمقراطية والعدالة. نأت بنفسها عن أن تكون ظل السيف. صارت مرشدة له وواصفة.
صارت وشاية الشعر، تصف للناس، تؤدبهم، تعلمهم. تقدم لهم مرايا الحسن. تقدم لهم “مرآة الغريبة.” لتنقية عيوبهم. تقدم لهم حسن الوصف. تقدم لهم دربة الشعر وخبرته وأواليته. تقدم لهم نفسها: “وشاية شعر”.