تجليات التوحش
لبنان اليوم، في أقسى تجليات الوحشية عليه. لم يعد محسدا في الإقليم، لم يعد محسودا على شيء.
حتى طبيعته الخلابة، صارت عرضة للإنتهاك، في البر والبحر والجو.
عاث فيها المفسدون. عاث فيها الفاسدون.
عاث فيها المتوحشون. من أعداء وسفهاء وبلاطجة (…). إعتدوا عليها بكل وحشية. إنتهكوا حرمة الشاطئ. إنتهكوا حرمة البحر. إنتهكوا حرمة النهر والوادي والجبل والسهل. إنتهكوا حرمة السماء. وإستباحوا الأجواء، إخترقوها، مثلما يخترق المهربون، الحدود البرية والبحرية. مثلما يخترقوا سائر الحرمات.
كيفما تلفت في السماء، ترى طيران العدو ينتهك الاجواء. يلوث الأجواء.
كيفما تلفت في المدينة وفي القرى المزنرة بالجبال، والمزينة بالنجوم، ترى فيها النفايات أكواما أكواما.
أكداس مكدسة من النفايات، تملأ الشوارع والزوايا والساحات. رماها الفاسدون. رماها المتوحشون.
تراها مكدسة في الأسواق والدروب. تراها مكدسة على الأرصفة. تراها مرصوصة أو مزروعة على الشطآن، في محيط العواصم: طرابلس وبيروت.
تراها في سائر المناطق، أحمالا أحمالا في بطون الأودية وفي قنن الجبال. تزكم أنوف الزائرين والمصطافين. تلوث الهواء.
نفايات مكدسة بالأطنان، صار لها سماسرة و تجار ومهربون.
تسوق النفايات المنزلية والنفايات المعدنية ونفايات المستشفيات، ونفايات النفط، ونفايات الدول المشاطئة للبنان، سرا بالأطنان، لتدفن ليلا بعيدة عن الأنظار. أو لترمى في منقطع من التل والوادي، بكل توحش. بكل وحشية وبكل إستهتار.
يوميا يتم الإعتداء على الغابات، يجزونها من أصولها. يذبحون الشجرة، تماما كما تذبح البقرة. ويعرون التل من الشجر، كما عروا المراعي من قطعان الغنم والعنز والبقر…
صارت جذوع السنديان والصنوبر واللبان حطبا، على أيدي الجلاوزة المتوحشين. يكدسونها في الأقبية، كما تكدس عظام المجازر الجماعية، في عهد جوبنز وفي الموسولينية و العهود الهتلرية.
كانوا بلا قلوب. بلا ضمائر. “وحوش بيد و غاب” ، هم. يسرقون اليوم الينابيع. يحملونها في الصهاريج وفي الصنابير. يعتدون على مشاريع الري وعلى مشاريع مياه الشفة، يقطعونها عن الأهالي، مثل الوحوش، مثل لصوص الليل وشطار النهار. يقطعونها عن المشتركين والمساهمين. يعبئونها للبيع لهم في مستودعاتهم، ويبيعونها بالملايين ، مثل إشتراكات عصابة أصحاب المولدات.
التجليات العميقة للتوحش، للوحشية، صارت في كل مكان: باعوا لبنان للجلاوزة المتوحشين. ثم فرطوا بالإدارة. وسيبوا أشباح التوحش، ينتهكون الحرمات. ما تركوا لنا شيئا إلا وحملوه في مخالبهم، وطاروا به في أعماق الليالي، يمزقونه، ويبيعونه حصصا حصصا، للمرتزقة وللغرباء على أبواب السفارات.
باعوا أجهزة الدولة لشيوخ الطوائف. ولأسياد شيوخ الطوائف، على الهاتف. وللسفارات وأصحاب الأمر والنهي و الولايات.
لم يبقوا على ركن فيها. ولا على وزارة ولا على إدارة، إلا وصارت رهينة مرتهنة للمتوحشين. و دينا عاما لباعة الأسماك.
أفسدوا السمكة كلها، أفسدوا الدولة كلها، من رأسها حتى ذيلها. وقالوا للناس بالفم الملآن: لا دولة لكم بعد الآن.
حول الجلاوزة المتوحشون الجدد لبنان، زواريب زواريب، لم يعد “وطنا نهائيا لكل أبنائه”. صار لبنان صفقة تجارية، عابرة للحدود. صار للتهريب بلا حدود. صار للمهربين بلا حدود. صارت المعابر الشرعية، معابر منسية، يسرح على جانبيها الذئاب و المهربون. صارت معابر التهريب سالكة للأشباح وتجار السلاح، ودعاة الدويلات والفيدراليات.
ضاعت الدولة الواحدة، تحت الجنازير، وتحت نعال الجزمات. وفتت إرادة الدولة و فت العيش المشترك. بلا وجل وبلا خوف. بلا وخزة ضمير، ولا من إستفاقة حفيد. ولا إستفاق حتى الأعور الدجال.
يدشن لبنان هذة الأيام، عصر الجحيم، في عهد المازوت الدارس للحدود. صهاريج تدخل، صهاريج تخرج، تحت زغرة زخات الرصاص، وتحت زغردة البنادق و تحت زغردة النساء والرجال والأطفال.
ما هذة الكذبة العمياء على الناس، تتحقق اليوم. لم يعد هناك شعب واحد في دولتين. تحول الشعب على أيديهم، شعوبا متنابذة، هنا وهناك، في دولة عابرة للإقليم، عابرة للحدود. في دولة نصبت رايات و ألوية على باب الجحيم، وقالت لنا إعبروا. وأنظروا. وأنتظروا.
ما نظرنا عندنا، إلا التجلي العميق للتوحش، للوحشية.
دولة لبنان فرغت من مالها. نهبوه منها في غسق ليل أليل. دولة لبنان فرغت من إدارتها. صارت إدارتها على هاتف، يهتف لها “هاتف” عابر للحدود. دولة لبنان فرغت من سياستها. صار سادتها، صارت سياساتها خلف الحدود.
أفسدوا السواقي والمراعي ومخازن الثلج. رهنوا الأرض والشعب والسيادة والعدالة. صارت جميعها عابرة للحدود.
لبنان يجتاحه اليوم شبح جديد، أعظم بكثير، بل أخطر بكثير، من شبح السلاح. لبنان يجتاحه اليوم شبح التوحش، شبح المازوت.
عاد حصان طروادة من جديد. عدنا إليه. يحمل الينا اليوم هدية. يحمل إلينا الطنابير المغلقة على الدولة لا تقبل التفتيش. و صهاريج التهريب العكسي للمازوت.
نزل في ساحاتنا. نزل في أسواقنا، عابرا، دارسا، للحدود. يأخذون اليوم من الطست، ويتصدقون على الإبريق. فيا ليتها، لم تزني ولم تتصدق.
عدنا من جديد، نرى بأم أعيننا، باب الجحيم. عدنا نرى تجليات التوحش العميق. بل تجليات الوحشية العميقة في لبنان الحمل الوديع.