الكهانة والشعر
في العالم القديم، عند الكهوف، وعلى أبواب البوادي، برز الشاعر كاهنا، يستطلع الآفاق. ويستطلع معه المخبأ. يستطلع المغيب. يستطلع الغيب.
لم يكن بين القوم من هو أقدر منه على تحسس ذلك. لم يكن بين القوم من هو أقدر منه على تلمس ذلك. على إستطلاع ذلك.
بدا الشاعر نجم القبيلة. به تستهدي، وإليه تؤوب، في كل مشكل، وفي كل حدث. وفي كل إنفجار. كان سفيرهم في أية حاجة، إلى أي قوم.
كان الشاعر حقا نجما قطبيا في القبيلة. لا يسرحون للصيد، إلا بعد الخروج من محلته. ولا يسرحون للرعي، أو لجني الثمار، إلا بعد زيارته. كانت محلته مزارا للجميع. بيتا للناس. قصرا جمهوريا لهم -بلغة اليوم- تصدر منه القرارات والتوجهات والأذونات.
كان بيت الشاعر عند الأقدمين، بيت الحكمة. وبيت الطبيب. وبيت العلم. ودار القضاء.
كانت دارة الشاعر مرصدا للأفلاك والنجوم. كانت دائرة للتعاقد و للعقود. كانت دارته محكمة للنزاعات وللزيجات وللصلح وللحرب معا على حد سواء.
كانت دارته للأفراح وللمآتم وللأعياد. وكان الناس يأتون إليه بالمال وباللباس وبالطعام. ويجعلون له حصة، في كل ما يجنون، من صيد ومن ثمر ومن نسيج ومن بقول ومن حب.
كان الناس ينظرون إلى الشاعر، بسمو. كانوا يقدرونه و يعظمونه ويرون فيه من القدرة، ما لا تتوافر لغيره. فكان يتسامى عليهم، ويلين لهم ويرق. وكان إذا ما أخذه الغضب، يقسو ويشتد.
تماهى الشاعر بالكاهن إلى أقصى حدود التماهي. وتماهى الكاهن بالشاعر، إلى أقصى حدود التماهي. ما كان واحدهما ينفك عن الآخر.
أضاف الشاعر إلى إختصاصه اللغوي والأدبي، إختصاصا آخر. هو إختصاص الكهانة والعرافة. فكان لا ينفك عن العمل في هذين الحقلين. صارت له إزدواجية الوظيفة، حين يباشر مهامه كل يوم. فلا تعرف عنده، أيهما الشاعر، وأيهما الكاهن. كان كلاهما، كأنهما شخصان في شخص واحد. كان وجهان لعملة واحدة. سداهما واللحمة: القداسوية المحكمة. القداسوية التي كانت تقوى وتشتد وتنفذ ، كلما خاف القوم على أنفسهم من غضب الطبيعة، وكلما دخلوا في حيز الخشية من الإصابة بالأذى. ومن إصابة الموت.
هل نتحدث عن هذا الثالوث، الذي تحكم بالناس منذ قديم الزمان: الشاعر والكاهن والقداسوية بينهما.
سيكون لنا حديث مفصل عن ذلك، فيما بعد.