إنتفاضة الشعراء
أكثر الناس تحسسا بآلام الناس، بآلام المجتمعات، بآلام الأوطان، هم هذة الشريحة الرقيقة من الناس. هم هذة الشريحة التي إنتدبت نفسها للتعبير عن أوجاع الناس وعن أوجاع المجتمعات وعن أوجاع الأوطان. هم هذة الشريحة التي عرفت أنها شريحة الشعراء.
منذ أول الخليقة، كان الشاعر يعتبر نفسه وليا عن المرضى وليا عن الجوعى، وليا عن المأزومين والمكسوفين والمجروحين والمحكومين. وليا عن المهزومين.
كان الشاعر ينتدب نفسه وليا عن هؤلاء جميعا، ليس بالمعنى الديني الحرفي الضيق، بل بالمعنى الإنساني والأخلاقي العام والشامل.
الشعور بالمسؤولية الذاتية، غير المرتبطة بتنظيم، أو بحكومة، أو بحوكمة، هي التي عمقت هذا الإحساس الفردي عند الشاعر، غير المتعاون حتى مع سائر جماعة الشعر والشعراء. بل المنافس لهم، والداخل معهم في سباق محموم، للوصول إلى أعماق الأحاسيس، وأعماق الأوجاع.
ظهور الشاعر كانت له ملامحه في الطفولة. وكانت هذة الملامح تقوى، في الصبا وفي الفتوة، وتكتمل عنده في عمر الرجولة. ولهذا كانت بيئته، تشعره بمكانته، وتقدمه في الصفوف الأولى من المجتمعات، إحساسا منها، بإنه الأشد بل الأكثر إحساسا لها. بمعنى آخر: شعورا منها، بأنه الأشد شعورا بها.
الشعراء الأوائل في المجتمعات الأولى، بانوا بين ظهرانيها، كمؤسسات فردية. بدا الشاعر، نفسه بنفسه، في بيئته، أنه شاعر/ مؤسسة. يجمع في ذاته جميع الإختصاصات بلا إستثناء. يرعى جميع شؤون القبيلة. ينظر في كل ما تحتاجه. يضع الحلول. ويقدم المعالجات. ويقول بالممكن. ويقول بالمستحيل. وكل كلمة منه هي إحساس. هي شعر.
أهم ما في الشاعر، أنه يظهر ك”نبتة برية”، تزهو نفسها بنفسها، في منقطع من الأرض. تلتقط النسمات العابرة بها، وتلتقط حبات الندى، وتلتقط شعيرات النور وتلتقط شعيرات الشمس. وتأخذ بأنساغها أنفاس الأرض، ثم هي تخرج للعابرين تضحك لهم كل إصباح وكل إمساء.
إنتفاضة الشعر، إنتفاضة الشعراء، إنما هي من هذا الإحساس الرقيق، الذي يشبه إحساس الوليد، فيأخذ بالبكاء وبالتفتح معا على حد سواء.
هل هناك من قرابة، بين كل شاعر، والوليد؟ هل هناك من تشابه، بين كل شاعر وزهرة البراري؟. أم هل هناك من تلاقي بين عصفور، بين جماعة الطير، على نبعة، يريد ترطيب المناقير حتى تقسو للحياة، حتى تشتد.
إنها مسألة الإحساس المبكر بالدور. إنها مسألة الإحساس المبكر بالقول، إنها مسألة الإحساس المبكر بالشعر.
الشاعر من هذا المنظور، حكمة غير مسبوقة. ودور غير مسبوق.
الشاعر تبشيري بإمتياز. وأول ما يبشر به إنتفاضة الشعراء. ثورة السعراء. مقاومة الشعراء. رفض الشعراء.
الشعر أولا وأخيرا إنتفاضة غير محدودة. إنتفاضة غير مسبوقة. إنتفاضة مسؤولة، من شاعر مسؤول، يتأبى الإنخراط في مؤسسة، لأنه هو نفسه مؤسسة ذاتية لتثوير الواقع. أي واقع، أنى وجد، و أينما وجد.