” سعة الأرض “
يهيمن علي اليوم، وجه بسعة الأرض. لا أعرف حقا، من أين يكون لوجهها اليوم، مثل هذة الشساعة.مثل هذة الأمداء، مثل هذا الإمتلاء.
طيف يسكنني، يستوطنني، يغطي الأرض كلها. وربما ينوف عنها. يعلو فوقها مثل القبة الزرقاء. مثل ملاءة من نجوم.
تتملكني مثل هذة الإستعارة. مثل هذا التشبيه، مثل هذة التورية، مثل هذي الكناية، مثل هذا التخيل، مثل هذا الخيال. أجنح للبعيد البعيد، ولا أجد منه فرارا: حين تكون الدنيا كلها في عيني، وجها لها.
وجهها، يملأ وجوه النساء جميعا. يسكنها مثل تجاعيد الليل: تجاعيد تجاعيد، مثل ليل القناديل.
وجهها يملأ البيوت التي أدخل كل يوم إليها. يملأ البيوت التي غادرتني، أو تلك التي غادرتها. أو تلك التي أراها قائمة على ركبتيها. أو تلك التي أراها محمولة في راحتيها.
وجهها شهيق الحقول من بعيد.
شهيق الكروم. شهيق البساتين. وشوشة من كركرات السواقي. من وشوشات الجداول، ذات مساء، عند حوض، أو عند حضن. حين يؤوب الطير، إلى أشجاره فوقها.
وجه سعة الكون حين أختصر الثرثرات في الوصف، حين أمضغ الترهات، وأسرع في كلامي إلى يديها.
ما هذة السنوات كلها إجتمعت علي. أتقد لها كلما أسمعتني، في برهة. تريد تصفية الحسابات. تريد تسجيل النقاط. تريد مني إلتقاطها.
ما هذة السنوات التي دانت لها.
عجزت أمام عينيها، عن صنع معجزة واحدة.
ما شأنني. ماشأني أنا، حين أكون نسمة صيف، تريد أن تبترد عند وجهها. تريد أن تعود مثقلة بعطر السنين التي غادرتنا. تريد أن تعود بذهب الشمس أوان غروبها. تريد أن تخبز من قمح عينيها. تريد أن تملح قلبي، من دمعها.
وجه سعة الأرض، سعة كل قلوب الأرض، وجه أمي أنا.
حين أحلم بها كل عمري. حين أحلم بها، ساعة أو لحظة، في البرهة المثقلة.
وجهها، إجتمعت نواحيه علي. ذلك الوجه، غابة في الصباح. غابة في المساء. وأنا أغمض العينين لآخذ قسطي من حلم. لآخذ قسطي من حكمة. لآخذ قسطي من نور عينيها، لعيني. حالما تطلع في فؤادي شمسها.
ما ظننت أني كفيفا. لطمني العماء بكفه. ما ظننت أنني أعمى هيكلي، كل هذي السنين، إلا حين أفقت على وجهها.
يهرب منها إلي في البرهة القاسية.
كيف أكون بلا وجه، دون وجهها.
تذوق إذن مرارة وجهك، بلا وجهها.
لا تطيق أن تخطو. لا تريد أن تجثو. لا تريد أن تبرك. لا تريد أن تهدأ، إذا ما قطفت هدوء الزمن السحيق من وجهها.
وجه سعة الأرض، حين أعد وجوه أبناء آدم. حين أعد وجوه الحاضرين. حين أعد وجوه الغائبين. حين أعدد وجهها في وجوه الأرض قاطبة.
من جهة القلب، إلى جهة القلب، فقط.
وجهها، سعة الأرض، هو وجه أمي أنا. حين أرحل في الأقاليم. حين أغوص في اليم. حين أعد السماء عدد النجوم.
كل يوم أستيقظ، على منديلها، يلم دموعي. كل يوم، أصنع من ثوبها أشرعتي. كل يوم آخذ من عطرها أمسيتي. كل يوم أحلم أني أمام عدسة عينيها أسجل مراحل عمري.
غريب طيفها حين يلاحقني كظل. حين يقضقضني كزلزلة. حين يدعني مثل ضوء يعود إلى شمسه.
سعة الأرض أو أعظم بقليل، أو كثير، وجه أمي أنا.
كيف أتابع يومي، دونه، كل يوم.
سؤال واحد يخرج من قلبي، يلم عن الأرض كلها، وجه أمي.
أنظر إلى الأرض. أنظر إلى السبع الطباق. أنظر إلى النجوم ، حين تلبس ملاءتها. أنظر إلى الأطفال يحبون إلى يدها. أنظر إلى أهلي. أبي. آبائي. إخوتي وأبنائي وأحفادي.
إنظر إلى حجارة الدار التي رصفتها يداها. إلى تنور روحها . إلى موقد عينيها. إلى زهرة. إلى وردة. إلى عريشة. إلى شجيرة دفلى.
فهذا كله وجه أمي. سعة الأرض وجهها.