..صدر حديثا للشاعر والأديب والمربّي الرفيع الأستاذ محمد نور الدين ديوانه الجديد الذي حمل عنوان ” آخر ما تبقّى ” وكتبت مقدمته الشاعرة سارة الزين .
موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي في بيروت يتقدم من الشاعر نور الدين بأطيب التهاني وينشر النص الكامل لمقدمة الديوان بقلم الشاعرة سارة الزين ..
هنا النص المقدمة :
“الشعر يحيط بنا في كل مكان، لكن وضعه على الورق ليس بسهولة النظر إليه”… (فينسنت فان غوخ)
بين يديّ “آخر ما تبقّى” من نبيذ الشعر وهو يسكب حمرتَه في كأسٍ معتّقةٍ بالأصالة والخيال.
هي رشفةٌ واحدة! تكفي ليترنّح المجاز عند عتبات القصيدة..
وبعد.. ثمّة رشفةٌ أخرى، هي صحوة الحرف كلّما شهقَ العشق في رئتيه بعد كل تنهيدةٍ يفلشها الشوق من تحت قضبان المسافات العقيمة!
ما الشعرُ؟!
طفلٌ متهوّرٌ مجنون يكسرُ لعبته ويرثيها!
قدّيسٌ يرقصُ فوق حوافّ الخوف، ويُشبعُ عينيه تراتيل هلامية!
ملاكٌ أخفى جناحيه، وصفّق خارج السرب!
امرأةٌ شقية الطبع… عصية على التأويل!
عجوز تمتدُّ تجاعيده من قبل الخلق حتى آخر الكون!
شابٌ وسيم وخجول تمرّد على ربطة العنق فمزّق بدلته ومشى حافيًا في شارع “الحمرا” تحت المطر!
ما الشعرُ؟
هو كل ما سبق وكلّ ما لم نقله بعد! لكننا نتحسّسه كلما مشينا على أطراف لهفتنا صوب كنايات عالية مستحيلة، محاولين أن نبلغ -ولو مرّة- لذّة الدهشة البكر حين تصّعّد من جلدنا في لحظة سُكر!
أحملُ بين يديّ “آخر ما تبقى” من الشاعر والمربي والناقد “محمد نور الدين”… فهل هذا الديوان هو آخر ما يريد أن يقوله؟ وهل للشعر آخِر؟
إنّ من يؤمنُ بالشعر يعرف أنّه وُجد من قبل الخلق، وأنّ فلسفته تبلورتْ بعد فعل الخلق لتأخذ شكل الروح التي تحمل أسرار الوجود وجوهر الكون.
والشعراء هم أنبياء الحرف ورسل المجاز وأئمة التأويل… “فكما يحتاج الليل إلى نجوم يحتاج المجتمع إلى شعراء” (شوفالييه دو بوفور) يشقّون جدار المستقبل ويشرعون نوافذ التحليق لتعبر موسيقاهم إلى تفاصيل الأشياء من حولنا.
بلى إنّ الشاعر مفكرٌ وفيلسوفٌ تختلف درجة عمق ما يقدمه من فلسفة من شاعر إلى آخر ومن نصٍّ إلى آخر. وهذا ملعب العباقرة الذين يدمجون اللغة بالإحساس وبالصور وبالعمق وبالكثافة وبالوجع وبالحب وغير ذلك من خلطة سحرية لا تعرف إلا لغة التوهّج والجنون والشغف.
فما هي إذن فلسفة الشعر عند “نور الدين” في هذا الديوان؟
ليس صعبًا على المتلقي أن يكتشف أنّ الحب عند الشاعر “محمد نور الدين” هو أصل الوجود وكنهه، وأنّ عمرَه يُقاسُ بدءًا من أوّل يومٍ أحبَّ فيه، فكأنه يترجم ما قاله “تولستوي” قديمًا: “نحن نائمون إلى أن نقع بالحب”.
يجمع الشاعر في هذا الديوان ثلاثين قصيدة جُلُّها يدور في فلك العشق والغرام والذوبان في المحبوب إلى حد التلذّذ بعذاب المسافة وتمنّع الحبيب وحرارة الشوق وارتعاش الخيال واحتدام المشاعر بين الممكن والمستحيل.
فاللّذة تكمن في اللاوصول والحب يزكّيه الألم.
الشاعر يقول لنا في ديوانه هذا إنه يعيش من أجل الحب ويختصر عمره وتجربته في هذين الحرفين اللذين يفتتحان عمرًا من معاناة محببة ما دامت في سبيل المحبوب.
هي معاناةٌ فيها لذاذة ومتعة توصله إلى مقام “الحلول” حيث تُلغى الأنا والكرامة ليصير كلّه متمثّلًا في الآخر.
وهذا المحبوب بالنسبة إلى الشاعر ليس فقط المرأة الجسد ولا المرأة الروح ولا المرأة العقل ولا المرأة الوطن.. المحبوب هو كونٌ شاسع من الكلّ لا الجزء، ليس كمثله شيء، غير قابل للتجزيء، فقدسيّته تكمن في كٌلّيته هذه وفي خلطته السحرية التي تجمع فيها كل شيء وفي الثنائيات الضدية التي استخدمها بشكل لافت في قصائده في القرب والبعد، والرغبة والتمنّع والإقبال والإدبار، والتحليق والهبوط، والرفض والقبول، والصد والجذب..
ولا يخفى على الباحث في نصّ الشاعر أن يلمس الأصالة في حرفه وكلاسيكية شعره بناءً ولغةً وتصويرًا مع محاولات لطيفة ومائزة يحلّق فيها صوب الحداثة التي لم تستطع أن تدخل في هواجس الإنسان الحديث بعمق ولا أن تقترب من أرق وجوده وضجيج تغرّبه، فالشاعر لم يتبحّر في الذات الإنسانية المعقدة بخيوطها المتشابكة والمتشعبة، بل ظلّ يعيش في جنّة الحبّ وناره، في عالمه الخاص الذي وجد فيه نوعًا من الخلاص والهروب من واقع الحياة واختناقاتها، فالحب بالنسبة إليه هو المنجي الوحيد من ضبابية الوجود وعتمة الطريق وغربة الروح وسط زحام المادة.
لم نجد سعيًا من الشاعر في أن يلبس رداءً لا يشبه فلسفته من أجل مجاراة ما يسمّى الانزياح عند شعراء الحداثة لغةً أو معنى إلا ما ندر. ولكنّ بعض قصائده التي تشكّلت بجسد السهل الممتنع استطاعت أن تُشبع ذائقة المتلقي وتترعه بالجمال، فالقارئ يقدّر قيمة هذا الحرف الأصيل ويعرف أنّ بين يديه عمرًا كاملًا من صراخ الحرف وصهيل الشعر وعذابات القلب العاشق، ولذلك يصله نزفُ العشق من مسامّات الشاعر إلى عروق القصيدة بسلاسةٍ ومن دون افتعالٍ أو اغتصاب لعفتها… فالشاعر عازفٌ بالفطرة على قيثارة اللغة والإيقاع والوزن ويترك الروح تفضح نزفه ليستعيد نزعة العشق عند المنفلوطي في قوله:
“ألا ليت لي قلبين، قلبٌ بحبّه
مريض، وقلبٌ بعد ذاك طبيبي
فوالله إنّ الحبّ خير محاسني،
ووالله إنّ الحبّ شرُّ عيوبي”
غير أن “نور الدين” لا يرى شرًا أو عيبًا في الحب بل الذلّ في الحب مكرمة، والوجع في الحب لذاذة، والبعد في الحب تزكية، والقرب في الحب ارتقاء، والصدُّ في الحب تطهير، والتمنع في الحب سموّ عن المادة. الحب عنده هو “آخر ما تبقى” منه لينزفه وهو النزف الذي لا ينتهي حتى بعد الموت فقد خلدته هذه القصائد وهذه الكلمات!
المتعة في هذا الديوان تكمن في الزبدة التي يستخلصها القارئ بعد رحلة هادئة عذبة بين البحور المختلفة والمتنوعة التي عزف عليها الشاعر بمهارة وإتقان. والزبدة هي أن الحبّ وحده هو ما يعطي للوجود طعمًا مغايرًا وهو البقية التي تمكّن الرّئات الشعرية من توسيع قفص المجاز إلى حدّ اقتلاع الحواجز المادية نحو مقام “الحلول” الذي فيه عتقٌ من سجن الأنا وارتحالٌ نحو المطلق.
فهنيئًا لنا وللشعر حظوتنا بشيء مما تبقى من شاعرٍ ومربٍّ وأديبٍ عرف كيف يحفر اسمه عميقًا في القلوب وفي وجدان القصيدة العربية.
سارة الزين