… في العدد الثاني من مجلة “أفكار اغترابية” جالت الكاتبة والاعلامية كلود ابو شقرا في رحاب منزل الفيلسوف والأديب اللبناني مخائيل نعيمة وفكره بعدما فتحت لها صديقتها سهى نعيمة الأبواب للدخول إلى عالم نوراني كفيل بتبديد ظلمة أيامنا.
وقد نشرت الكاتبة مقالتها في مجلة افكار اغترابية لصحابها الأديب اللبناني المهاجر د. جميل الدويهي ..
وهنا مقالة الكاتبة كلود أبو شقرا :
“أفكار اغترابية” في ضيافة منزل مخايل نعيمة
ذكريات وصور وحضور إنساني وفكري يشع بفلسفة “نورانية”
كلود أبو شقرا
باكرًا ذلك الصباح من أحد أيام عام 2018، قرع جرس الباب في منزل الفيلسوف اللبناني مخايل نعيمة في منطقة الزلقا إحدى ضواحي شرق بيروت، فتحت سهى نعيمة وإذا بها تفاجأ بشخص يبلغها بضرورة إخلاء الشقة لأن المبنى على وشك الانهيار.
أغلقت سهى الباب ووقفت لحظة تتأمل الجدران وكل زاوية من البيت التي احتضنت ذبذبات وحياة ميخايل نعيمة على مدى عشرين عامًا بعد نزوله من الشخروب في بسكنتا وقضائه فصل الشتاء فيه، وتتساءل كيف ستترك كل هذه الذكريات وتنتقل إلى منزل آخر؟
لا مفرّ من هذا الواقع الذي لم يكن في الحسبان، فقررت سهى الانتقال من دفء هذا المكان الذي شهد طفولتها وردد صدى ضحكاتها وشيطناتها والكم الهائل من الحب بين جدو مخايل وماما مي والابنة سهى، إلى منزل آخر حاملة معها كل ما جنت يدا الفيلسوف ميخايل نعيمة من اغراض ومحتويات ومخطوطات وكتب.
ما قصة منزل الزلقا؟
في سن الثمانين ترك ناسك الشخروب أرض صنينه بعدما أرخى البرد القارس بثقله على جسمه الحامل وطأة العمر، وقصد بيروت واستأجر منزلا في منطقة الزلقا لقضاء فصل الشتاء، وأمضى فيه السنوات العشرين الأخيرة من عمره مع ابنة شقيقه مي وابنتها سهى اللتين ملأتا حياته حبًا وحنانًا. وبعد وفاته، عمدت عائلته إلى فتح بيته الشتوي في ذكرى ميلاده وفي ذكرى رحيله ليلج الناس عالمه النابض بالأدب والفكر والذكريات…
هذا البيت الحاضن نعيمة الأديب والفيلسوف والإنسان والعم والجد، لم تتركه سهى بل حملته بكل محتوياته المادية والروحية والعاطفية الخاصة بالثلاثي مخايل ومي وسهى إلى منطقة المطيلب.
كم تحملت من المشقات في السنوات الأخيرة؟ سؤال بادرت الاعلامية كلود ابو شقرا به سهى لدى زيارتها لها في منزل مخايل نعيمة في المطيلب، فتجيب:
لم أحمل أنا البيت إنما هو وجدي ووالدتي يحملونني، لا هوية لي ولا وجود من دون مخايل نعيمة ومي نعيمة في حياتي. أنا سهى فوزي حداد، عندما ولدتني أمي حملتني من المستشفى إلى منزل مخايل نعيمة في الزلقا ووضعتني بين يديه، لأنها انفصلت عن والدي وكانت حاملا بي. فاستلمني جدي مخايل وما زال إلى اليوم. إنه صورة الأب في حياتي، أطعمني الخبز وما بعد الخبز والمحبة وما بعد المحبة والانتماء وما بعد الانتماء والبيت وما بعد البيت. تربيت من مردود فكره ومن روحه وقلبه وتعبه وتضحياته. كل شي حواليّ من تعب جدي. أما امي مي فهي حاضنتي وهي الأم والابنة لمخايل نعيمة واهتمامها اللامحدود به ساهم في إطالة عمره حتى بلوغه التاسعة والتسعين وأربعة اشهر. ضمن رحم هذا البيت أنا ربيت، فيه أكبر وأكبر إلى أن يحين وقت النضوج وأخلق في دنيا الحق وانضم إليهما.
كيف عاشت سهى لحظات الانسلاخ عن المنزل النابض بالذكريات؟
كانت لحظات صعبة وقاسية، تقول سهى، بداية وصلنا تهديد أن البناية غير صالحة للسكن ويجب تركها، لكن تبيّن في ما بعد أن الخبر كاذب ناجم عن مخيلة يحرّكها الطمع، فالبناية ما زالت مسكونة بعدما حولها مالكوها إلى شقق صغيرة للإيجار. كان بمقدوري البقاء في منزل جدي لكن المالك رفض فرز الشقق، بالتالي علي امتلاك شقة للحفاظ على إرث جدي.
استجمعت كل ما لدي من قوة وشجاعة للخروج من هذا المكان ومن هذه الجدران التي امتصّت ذبذبات جدي ووالدتي وأنا وشهدت طفولتي ونمونا سويًا نحن الثلاثة ومع الأحبة الأهل والأصحاب والجيران وعشاق نعيمة وفكره وفلسفته سواء من لبنان أو من الخارج.
عملا بقول لاوتسو: “ليست الجدران هي التي تحدد البيت إنما المدى اللامتناهي”، نقلت منزل مخايل نعيمة إلى منطقة المطيلب، ودجنت الجدران بصور هي شاهدة على كل لحظة من لحظاتنا.
ما الذي تغيّر بين منزل مخايل نعيمة في الزلقا ومنزله في المطيلب؟
لا شيء تغيّر، تقول سهى، الذكريات والذبذبات والسنوات العالقة على جدران منزل مخايل نعيمة في الزلقا انتقلت معي إلى المنزل في المطيلب. أشعر بوجود جدي ووالدتي هنا في هذا البيت، اسمع سعال جدي وحفيف حذاء نومه على الأرض وأسمع تنهيدة والدتي وطيبتها ترافقني أينما كنت… كل هذه الأمور تخطت الزمان والمكان، وهي حاضرة هنا في المطيلب، لأنها أبعد من الزمان والمكان إنها في مصاف الخلود.
ما الذبذبات التي حملتها معك من بيت مخايل نعيمة في الزلقا؟
كان جدي مخايل نعيمة ينادي بالمحبة الشاملة والسلام الشامل وبالله القابع فينا ونحن فيه، وقد تأثرت به والدتي منذ طفولتها، فعندما عاد من هجرته في أميركا سنة 1932، سكن مع عائلة شقيقه جدي نجيب وجدتي زكية وأولادهما الثلاثة أمي وخالي يوسف وخالي نديم، فشارك في تربيتها وتربية خالي نديم وخالي يوسف، وزرع فيهم، خصوصا والدتي، روح التعالي عن الصغائر وصقل الذات لصالح الذات الكبرى وإزاحة الذات الصغرى وذات الشهوات. هذه الذات الكبرى التي تربت عليها والدتي مستمرّة في هذا البيت. ذبذبات البيت هيي ذبذبات الذات الكبرى من مخايل ومن مي.
نبذة عن سهى نعيمة :
تحمل سهى نعيمة إجازة في الإعلام المرئي والمسموع والسينما والإخراج. بعد رحيل جدها في 28 شباط 1988 العاشرة والثلث مساءً ، قررت الاتجاه نحو الفلسفة علّها تلتقي بوجهه، وحاولت البحث عنه في قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية لكنها لم تلقاه فخاب أملها، ولم تنهِ دبلوم دراسات عليا في الفلسفة الذي انتسبت إليه في الجامعة، فانتقلت إلى جامعة البلمند حيث نالت دبلوم دراسات عليا في وسائل الاتصال الجماهيري، وهي الآن تعطي دروساً في الدائرة الإنكليزية في جامعة هايكازيان في بيروت ، وفي دائرة دراسات ثقافية حيث تحاضر في أول صف في فلسفة الحضارات القديمة وفي آخر صف في فكر القرن العشرين…
رغم اعتراض كثر على تسمية منزل المطيلب بـ منزل مخايل نعيمة واعتباره بيت سهى نعيمة، إلا أن سهى تتجاوز هذا الاعتراض وتردد قولا لمخايل نعيمة في كتابه “مذكرات الأرقش”: اتركوا سجلات الناس للناس، وتقول: “ينبض هذا المدى بتعب مخايل نعيمة وكل محتوياته ثمرة قلمه ومردود كتبه. ثمة انسجام بيني وبين امي وجدي، إنهما صلاة تتجسد في حياتي وفي هذا البيت”…
اليوم، في ظل الظروف التي يعيشها لبنان الوطن والإنسان ثمة تعطش لفكر مخايل نعيمة ولروحانيته…
صحيح، تقول سهى، والدليل الإقبال على زيارة المنزل والغوص في عالمه. في لقاء صحافي أجرته معه صحيفة “مونداي مورننغ” قال مخايل نعيمة: “جملوا أنفسكم لتكونوا أهلا لجمال لبنان وكونوا بجمال لبنان”.
الإنسان بالنسة إلى نعيمة ذات كبرى وذات صغرى. الذات الكبرى تأتي من الله وإليه تعود، وهي تشبه نقطة الماء التي تخرج من البحر وتتبخر وتصبح غيمة وتنزل مطرًا وتجري ساقية وتعود إلى مصدرها البحر. نحن ننبثق من الله وإليه نعود، لكن لتحقيق هذه العودة علينا أن نتخلص من أدراننا ومن رغباتنا الدنيوية. أما الذات الصغرى فتأكل وتشرب وتتكاثر وتهتم بكل ما هو إلى زوال.
ميخائيل نعيمة يوقظ الذات الكبرى في الإنسان، ذات الفرح الأعظم والنور الأعظم والانتماء من الأزل وإلى الأبد. لذلك، نعم، ثمة تعطش إلى هذه الروحانية بعدما ارتمى الناس في الذات الصغرى وانغمسوا في البشاعة والانحلال ووحول الواقع…
…في ضيافة مخايل نعيمة
في أرجاء منزل مخايل نعيمة الذي لم يتغير عما كان عليه في الزلقا، جالت “أفكار اغترابية”، أمام المدخل صورة لإكليل الغار الذي كان يعلو باب المنزل في الزلقا ويرمز إلى أن مي ومخايل هما اكليل الغار لهذا البيت، على الشمال عبارة من قصيدة كتبها نعيمة في عيد ميلاده الخامس والتسعين لمي جاء فيها: “يا مي يا شمسي ويا قمري” وعلى اليمين صورة لجرس بيت الزلقا ومفتاح بيت الزلقا، وعبارة من كتاب “كرم على درب” يستقبل فيها نعيمة الزائر: “كرمي على درب فيه الحصرم وفيه العنب فلا تلمني يا عابر السبيل إن أنت أكلت منه فضرست”.
يتصدر الصالون صورة لنعيمة بعباءته وعبارته من “كرم على درب”: “لا تغرب الشمس إلا عن الذين يغربون عنها”، ولوحة للرسام التشكيلي سامي أبو الخير تجسد وجه نعيمه وهو يتطلع اللانهاية أنجزها عام 1978.
فوق الباب عبارة MIMASUNA ميماسونا، تختصر الأحرف الأولى من اسماء مخايل ومي وسهى. تقول سهى: “نحن أقانيم ثلاثة للكلمة الواحدة والنبض الواحد. ونحن هنا في باب الرحم يدخل الزائر ويتفاعل ضمن الرحم الأوسع بقية البيت ولا بد من أن يخرج وفيه ومعه إرادة التجديد”.
كتب نعيمة، كتاباته، صوره، أغراضه، مقتنياته، كل قصاصة ورق كتب عليها مركزة بحب وعناية. في الداخل لوحة لمي كأنها تستقبل الزائر في بيت الكلمة الخالدة التي تقرأها في كتابها، إلى جانبها قاموس يعود إلى عام 1800 كان نعيمة يستعمله في أميركا محفوظ ببيت من خشب الأرز يرمز إلى الخلود. بالقرب منه سجادة جدارية ترمز إلى حبكة الوجود تعلوها فكرة لنعيمة موجهة إلى الزائر تقول له: كيف تسألني من أنا وأنت تجهل من أنت.
في مكان آخر قبعة نعيمة وعصاه وإلى جانبهما صورة له مع مي، بما أنه حضنها بعد انفصالها عن زوجها صار هوي قبعتها وهي عصاه. وفي الصالون عبارة بخط يد نعيمة: “طفلك أنا يا ربي وهذه الأرض البديعة، الكريمة، الحنون التي وضعتني في حضنها ليست سوى المهد أَدرُج منه إليك”، وهي موضوعة على ضريحه في الشخروب الذي أقامه د. نديم نعيمة.
على الجدران كتابات لنعيمة محفوظة بإطارات من خشب ومقاطع من كتبه، التي كتبها منزل الزلقا، من بينها مقاطع من “نجوى الغروب” الذي يناجي فيه ربه في غروب عمره ويصف في أحد فصوله ديناميكية الحياة في هذا البيت.
في الصالون الأريكة التي كان يجلس عليها ويستقبل الناس وعلى الجدران صور مصفوفة على شكل نبضات القلب لأن “ميشا” هو نبض قلب مي وسهى، وتبيّن إحدى الصور كيف كان يسند يده اليمين بيده الشمال ليكتب لأنها كانت ترجف. وتظهر صور أخرى علاقته مع مي وسهى في طفولتها وصباها ومع باقي أفراد العائلة وعلاقته المميزة مع السيكارة حتى أن آخر كلماته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة كانت “مي ولعيلي سيكارة”.
فوق باب الصالون مجموعة إطارات خشبية في الأول آخر ثلاث سكائر طلبها من مي قبل أن يغفو من 11 الصبح لغاية العاشرة والثلث مساء عندما غادر العالم، وفي الثاني آخر ثلاث محارم ورق مسحت فيها مي جبينه، وفي الثالث آخر بيجاما ارتداها، وفي الرابع آخر بدلة ارتداها، وفي الخامس آخر مسبحة رافقته، وفي السادس آخر قلم مسكه، وفي السابع آخر ورق اللعب الذي كان يتسلى بالتبصير فيه وبين كل جولة وجولة كان يناجي ربه بالقول يا مسيحي يا الله.
في الصالون آخر حذاء نوم ارتداه وقربه آخر حذاء نوم لمي، فوقهما علبة زجاجية فيها مسودة كتاب “ومضات” بخط مي، إذ كان نعيمة يملي عليها أفكاره إلى جانبها قصيدة صنين.
في علبة زجاجية أخرى لوح خشب صنعه مخايل نعيمة كان يضعه على حرجه عندما كان يكتب في كهف الشخروب في بسكنتا. وفي مكان آخر من الصالون مزهريتان من النحاس تحتويان على نبتتين ترمزان إلى الخضار أي الخلود واليباس أي الزوال وهما تختصران فلسفة نعيمة، وقربهما منحوتة من الرخام تقدمة من الإخوة عساف ومنصور وعارف عساف الذين نحتوا تمثال نعيمة الضخم، إلى جانبها صورتان معبرتان الأولى ليديّ مخايل نعيمة شبكهما على شكل هرم يلخصان فلسفته حول هرمية الوجود الناس في الأسفل والله الأوحد في الأعلى وهدف البشرية الوصول إلى الله الأوحد، والثانية لرأسه من الخلف من تصوير المخرج الراحل مارون بغدادي للإشارة إلى الأفكار العميقة التي يحتويها.
في غرفة الطعام طاولة كبيرة كان ميخائيل نعيمة يكتب عليها وعلى الحائط إطار يتضمن مجموعة من رسومه وهي تعبير ذاتي تتكرر فيها فكرة الرحم الذي يحضن الإنسان ومنه الانطلاق إلى الخارج، محاطة بقطعتين من الأوبوسون من شغل مي في صباها. على الدروسوار وراء الطاولة الآلة الكاتبة اللي كان يطبع عليا رسائله وترجمات كتبه. وفي مكان آخر حقيبة من الجلد جلبها معه من أميركا وفوقها صورة تجمعه بصديقه جبران خليل جبران في نيويورك.
في المطبخ، المشهد لم يتغير، طاولة الطعام والمقاعد الثلاثة واللملحة والمبهرة وكل الأدوات التي كانت تستعمل عندما كان مخايل حاضرًا بالجسد. أماغرفة الجلوس فتتصدرها الأريكة التي لفظ نعيمة عليها أنفاسه الأخيرة تعلوها صور تكشف يومياته في هذا المكان من القراءة وتبصير الورق وشرب “دمعة” من كأس الويسكي بين الخامسة والسادسة مساء كل يوم، وفي زاوية منها أول تلفزيون اشتراه نعيمة، ومجموعة من الصور التي توثق أجمل الذكريات مع العائلة.
الداخل إلى غرفة نوم نعيمة يشعر برهبة حضوره فسريره محفوظ وفراشه ومكتبه الذي كان يحفظ فيه أوراقه ورسائله، وأدوات الحلاقة وأغراضه الخاصة اليومية، كل شيء ينبئ بأن ساكن هذه الغرفة لم يتركها. أما غرفة مي وسهى فتحتوي سرير مي الذي غطته سهى بالدانتيل بعد رحيلها وسرير سهى. وفي الغرفة ستائر نقلتها سهى من الزلقا لأنها تحمل بصمة والدتها التي رممتها بعد تعرضها للتمزيق بسبب إصابتها بشظايا خلال الحرب التي عصفت بلبنان…
في كل ركن في منزل مخايل نعيمة صورة وحكاية وذكرى ترمز إلى الحضور اللامتناهي لجماليات الفكر والفلسفة والإنسانية الحقة والأصيلة التي تعبق بها هذه الواحة التي هي… واحة الحياة.