وردة الشعر
عرفت أوطان العرب، جميع أغراس الشعر. إلا أن بيروت وحدها، كانت قد قطفت الوردة. وردة الشعر.
أينما نزل العرب، كان أول ما يفعلونه: يدفعون شعراءهم لرفع رايات الشعر، وغرز أغراسه في الأرض، إعلانا مكتوما لتمصيرها. فلا يصح أن يكونوا، ولا يكون الشعر معهم في الرحال. لغرسه في البيد.
هكذا فعلوا في زمن الفتوح. حملوا الشعر معهم. وأينما حطت رحالهم. غرسوه في البيئات الجديدة التي نزلوها. بلاد مصر وفارس والمغرب العربي. عبروا به إلى الأندلس وإسبانيا كلها والبرتغال. بل إلى شرق آسيا، من بلاد الترك والطاجيك والمغول وإفغانستان، حتى حدود الهند والصين، وهضاب مانغوليا ومانشوريا، وبلاد المجر والروس. ناهيك عن نشره في جزائر البحار، في المتوسط، وخارجه، حتى بلاد ما وراء البحار. في جميع المهاجر التي نزلوها، في الأمريكيتين، وفي أوروبا، وفي بلاد ماليزيا وأندونيسيا وإستراليا، وما يحيط بها من بلدان.
شعراء العربية، وشعراء اللغات الأخرى، من العرب، طوحوا في جميع أصقاع العالم. وكان شعرهم يهدر في جميع الأزمنة وفي جميع الأزمان، بلا إنقطاع. لأنهم كانوا يعيشون في الزمان، لا في المكان. فالمكان يتمصر بشعرهم حيثما حلوا، مثلما كان يتمصر بالقرآن في زمن أجدادهم.
كانت أغراس الشعر، أهم بكثير في تمصير البلاد التي حلوها، أكثر من النخل.
وإستمرت حملة التمصير بالشعر، بعد توقف أعمال الفتوح. فكان العربي يسير في الأمصار، وعلى جانبيه تتدلى جعبتان ممتلئتان. جعبتان، إمتلأتا بالشعر وبالقرآن. ينثرهما غراسا نديا، أينما كان.
أغراس الشعر، كانت مع الصواري والساريات. كانت مع الرايات.
توقفت رايات الفتوح. فرفع العرب مكانها رايات الشعر. جعلوها من كتب العهد بينهم وبين الأمم والشعوب، التي حلوا بينها.
كانت قصائدهم عهودا، قطعوها لجميع الناس. رققوا جنباتهم بها. أحيوا نفوسهم بها. وجعلوا الألفة والتعايش والإندماج، من هوائها. من ريحها. من عطرها. عطروا بها الأرجاء.
أغراس الشعر لم تنقطع بكل اللغات. نفحوا فيها من نفوسهم. نثروها في جميع البلدان التي كانت مهابط قلوبهم، ومهاجع أرواح ونفوسهم، وحقول أياديهم، وبساتين وجنائن عيونهم.
غير أن وردة الشعر، لم يكتمل تفتحها إلا في بيروت.
ذاقت مصر شعر العرب، من يد عملاقين: المتنبي وأمير الشعراء، أحمد شوقي. ولكن لم تتفتح فيها وردة الشعر. لم تتفتح أوراقها، ولم يضوع عطرها ولا إنتشر ذكاؤها. ظلت بيروت لوردة الشعر وحدها.
ذاقت دمشق شعر العرب، وتذوقته. وذاقت حلب شعر العرب وتذوقته. وذاقت اللاذقية شعر العرب وتذوقته. غير أن وردة الشعر ظلت لبيروت.
ذاقت بغداد شعر العرب وتذوقته. كانت داراتها ترفل بالقصائد، على ضفاف دجلة. تتراقص فوق أمواجه، مع عرائس النهر، وداخل الحانات، مع الجنات، مع الجن. غير أن وردة الشعر، ظلت لبيروت.
كذا كان الأمر في الأندلس. في كل عواصمها. نسج شعراؤها الموشحات، وإزدانوا بها. توشحوا بها. غرسوا في البر الأندلسي، مالم يغرس من ألوان الشعر. ولكن وردة الشعر، ظلت لبيروت.
طار الشعراء العرب، إلى دنيا المهاجر كلها. أرسو مراسيهم في قيعان المحيطات، وأنبتوا الشعر في المدن والشواطى والخلجان. فاح الشعر المهجري فيها، كتفاح لبنان. ولكن وردة الشعر، ظلت لبيروت.
سأبحث عن السر الذي جعل لبيروت وردة الشعر، ولو لم تكن في تاريخها كله عاصمة العرب.
سأبحث عن السر الذي جعل بيروت إذا، عاصمة الشعراء العرب.
سأبحث عن السر الذي جعل الخبز في بيروت، من قمح الشعراء، معطرا بالورد.
آن الأوان لنقول الآن كل شيء. ما دام ليس لنا حكومة في بيروت إلا من الشعراء، يوزعون على زائريها، طاقات من الورد.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية