علم الشعر ( 2 )
الشعر علم، لم يكن للعرب علم غيره. حدث أن إنفجر بين الناس، بعد إرتطامهم بالطبيعة. بعد إحتكاكهم بها. بعد مؤاخاتهم لها. بعد مصاحباتهم إياها.
الطبيعة كانت أول كتاب في الشعر. الطبيعة كانت أول العلم، أول الشعر.
نشأ العرب في بواديها على الفطرة. وإنسابوا في فيافيها، وتقلبوا على رمالها، وإستنشقوا عبير أزاهيرها. وتحلقوا حول أرواضها، يستأنسون بالوحوش، تعلمهم الشعر. تلقنهم الشعر. ويلقنونها.
طربوا لأصوات الرياح، تماما كما كانت شجرة الدلب في ساحة لندن، تعزف للكهنة والمتعبدين، يجتمعون صباح كل يوم أحد تحتها.
سمع العرب أول ما سمعوا إذن، بأصوات العناصر الطبيعية، تهزها النسائم والأرياح. وأصغوا حبا ورهبة وخشية، لأصوات الحيوانات. قلدوها. زجروها. بادلوها.
عرف العرب أول ما عرفوا الشعر التبادلي، بينهم وبين الطبيعة. فهزجوا ورجزوا. وكان شعر الهزج والرجز، أول الشعر عندهم.
تعثرت الناقة في طريقها، فإنكب الأعرابي لذقنه عن ظهرها، فبادر لإستجماع نفسه، على وجع، على ألم، فصاح مستنجدا في الصحراء فقال: وا يداه… وا يداه… قال العلماء: إن صيحته كانت أول الشعر. كانت أول شعر الرجز.
وأعرس دويد القضاعي، فإحتاج لبناء بيت له يعرس فيه، من شقة واحدة/خيمة واحدة. فإمتلأ غبطة، بعيد إنجازها. ووقف ألى جانب عرسه مغتبطا، مبتهجا، يحادثها:
الآن يبنى لدويد بيته/ لو كان للدهر بلى أبليته./ أو كان قرني واحدا كفيته. يا رب نهب صالح حويته.( النهب: عفش البيت هنا. فكل ملك له، هو نهبه. لأن النهب، توريةللملك).
يقول كولرج بالخيال الأولي، وبالخيال الثانوي، للأدب والشعر. الخيال الأولي: الإمعان في معاناة الحياة والعمل والكد والإجتهاد فيها. أما الخيال الثانوي، فهو علم القول. علم الشعر.
تطور الشعر، بتطور علمه. ولا نقول كما قال الآخرون: إن قواعد الشعر، إستنبطت من ظهرانيه. وإن النقاد قاموا بإكتشافها في وقت متأخر.
تطور علم الشعر عند الأمم، كما عند العرب، كما تتطور الصناعات. كما يتطور علم الصناعات. كان يحتاج تطوره، إلى علم صنعة الشعر.
وكثرة المدارس التي حفت به، هي أعظم دليل تعلمه علما في مدرسة. وعلى دراسته دراسة في دار أو بيت من دور العلم وبيوته. وبيوتاته.
ذكر في المجاميع، إن أول من قصد القصيد: هو إمرؤ القيس بن حجر. وأن هذا القصيد الذي قصده، كان من إنتاج المدرسة الأوسية: مدرسة أوس بن حجر.
المدرسة الأوسية، رققت الشعر، بجميع وجوهه وجنباته، وجعلت منه مايشي الطبيعة على أرق منها. وما يصفها بأجمل منها.
عرف أوس بن حجر علم الشعر قبل أرسطو، حين قال بسموه على الطبيعة. وذهب قوله بين صناع الشعر في بيوتات العرب، قاعدة ذهبية. وربما تأثر بها أرسطو، لأن اليونان، كانت قد جعلت بلاد العرب من ممالكها.
يتسابق الناس للإقرار بعلم الشعر عند أرسطو، ولا يقرون بعلم الشعر عند أوس بن حجر، وهذا لعمري، مما يجب أن يعلم بين الناس، حتى يعرفوا أن علم الشعر أصيل عند العرب، قبل اليونان بأزمان.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية
