شعور المسنين
-×-×-
وإذا الشيخ قال أف
فما/ مل حياة وإنما الضعف ملا. (المتنبي)
أحاول أن أشرح صدري أولا، لهذا البيت، الذي لا يحتاج إلى شرح شارح.
فهو يقوي في العزيمة، يوما بعد يوم.
وكلما توغلت في بحر العمر، أجد نفسي ألهو بين أمواجه، كما طفل يبحث عن لعبة له، تطفو وتغرق، مثل زنبقة في قلق الموج.
شعور المسنين صار يراودني، كلما دنا مني عجوز. أو كلما دنوت من عجوز مسن. دنف، لا فرق.
كيف يستطيع أن يحمل مثلي، على ظهره، جميع هذا العالم. كل هذي السنون. ويظل يحلم بالأفق الضارب في الأفق البعيد.
يتعثر، مثلي، رافلا بالوقت. بساعاته. بدقائقه. لكن قدميه ثابتتان بالأرض. وأما روحه، فهي ترسم الغيم. وأجنحة كل غيم.
كل يوم يسافر في المسن إلى موته. ثم يعود بعد أن ينجز مهمته: يدق مسمارا ضئيلا في نعشه. يغمض عينيه يخاتله. ويدق مسماره في نعش الموت.
الرجل العجوز، بلغ السن باكرا. نبت له شعور جديد، ما كان يعرفه، وهو ينحت صنوبرة العمر، في الريح. تحت المطر. ثم يجلوصورته، هيكله، في وهج الشمس.
شعور المسنين، أمر مختلف عن كل شعور مر. أتلمظ تحت لسانه، حلاوة الروح، كلما دنت من هيكلي شمس الأفول.
كما الشمس وهي تضؤل، عند الغياب، يزهر فيها جمال اللحظة الهاربة، جمال البسمة الهاربة، هو الشيخ في، عند الغروب.
عجوز مسن، أناخ الدهر عليه، بكلكله. تراه ينهض مثل قوس، ثم يطلق سهمه على شجن العمر. على أشجانه. على أحزانه. على طائر اليأس والحزن.
شعور المسنين أحلامهم تعصى على الدمع. تراه يتكلس في عناقيد قلبي، تحت صخر القلب، ثم هو ينفجر، مثل بركان من الورد.
عجوز مسن دنف، يتوكأ على عصا العمر. يعد على أصابع يديه أحلامه الباقية.
ما هذة الصورة، التي تجنه، تخفيه، تحت ريش خوافيها، كل يوم عن عذاب يومه، وهو يقطع الدرب من المهد، إلى اللحد، في قسوة الوحدة، في اللحظة الموحدة المتوحدة.
شعور المسنين دم، و دمع، وقمح، يملأ إهراء العجوز، هيكله الحدب، الأحدب: فلا ينهض. فلا يتكئ. فلا ينام إلا على وجع يسيره، يسير به. فلا ينهض به، إلا على جناح، على جنح حلم.
ما هذا الرجل الرمة فوق قبر العمر، يقوى شعوره. يحتد. يحتد. كلما دخل في سباق مع الدهر.
العجوز، متوكئا على سنه، متوكئا على يده، متوكئا على يأسه، متوكئا على بأسه، يضع خده للأرض.تطأه. تأخذ منه قبلتها ثم ينهض متبسما للريح، تحمله إلى كل الجهات. يجثو عند جبين يسقط في حضنه للتو.
ريح الطفولة، تملأ عطفيه، حين يسير وحين يقيل. شعور مسن، قارب أن يغادر الأرض.
أزف الرحيل، يهمس الرجل المسن. صار قاب قوسه. ما عاد يشعر أن شرشف البحر كفنا له.
شرشف البحر كفنا، ينحسرعنه، ينحسر عن
بدن العجوز.
كل غروب يقف أمامه. يقيسه بعينيه. يرحل عنه في ليله. ثم يعود إليه مع الفجر. يؤجل خطوه، حتى يصير لنسيج البحر، أن يتسع له.
شعور المسنين في برهة الشمس: أنهم تحت بحر العمر كله. بحر لا حد له.
ينتظرون في الأفق البعيد. يضربون كل يوم موعدا جديدا، للغزالة، وهي تنزل. تنزل. تستحم بين يدين راعفتين . بين يدين راعشتين. بين يدي مسن دانف، من ذهب. ومن ورد.
شعور المسنين، دمعة تذوب في عين أفق أحول. ما عاد ينتظر الغسوق ولا الشروق. صار ينتظر الحنين. صار ينتظر الشجن. صار ينتظر الكفن.
شعور المسنين، جذره دمعة ماضية. جذره دمعة مقبلة. جذره في غور كهف.
ليله، ليل أرض غارت فيها الشمس، فما يحتاج من بعد، للشمعة الذائبة.
شعور المسنين، دموع شمعة لا تجف. ندت عن الجفاف سحابة العمر. صارت نافورة من دموع. تروي زهور عمر، يرمق طفولته، وهو ينظر في حينه، إلى شاهد، يحمل رسمه، وئيدا، وئيدا، إلى القبر.