التاريخ: 05/09/2021
المقال رقم: 39/2021
الكلمــة القاتلــة
بقلـم: رشـا بركــات– حكايــات رشـا (رايتـش)
من أنا؟…هل أنا وهم أو حقيقة؟… من هو؟…هل كان حياً ومات أو قتلوه؟ هل هو كلمة أو حقيقة؟…
أعلم أنني حقيقة لكن حكايتي تحتّم علي هذا التساؤل. أعلم أني لست من سراب ولا وهم وإنما وجدت قبل أن أهمّش…وجودي أزلي وكذلك هو…
وأنا هي، الأنا الكلية لكل شعبنا الفلسطيني…
لا، إنه ليس كلمة، ليس وهم….
نعم، إنه حقيقة مثبتة ومدوّنة لكنه استعمل الكلمة كما أستعملها “أنا الخاصة، الغير كليّة”، لكي يقول كلمته الحرة ويقف متحدّياً في كل ساحات الوغى. لقد كان وها هو لا زال حياًّ من خلال الكلمة تلك. ففي البدء كانت الكلمة واستمرت وستستمر…وأنت باقي كبقاء الوطن بزيتونه وبرتقاله حتى لو تعاقبت عليه كل التصنيفات المتأرجحة والأوهام الفانية والقتل بتخطيط وعن عمد.
قتلوك، لكنهم لم يستطيعوا أن يقتلوا كلمتك. قتلوك جسدًا لا روحًا. وكما خلق الله سيدنا المسيح بالكلمة، فها أنت استشهدت بسبب كلمة الحق في وجه قاهرنا. كلمة نسفت موازين كل القوى فقرروا أن يبيدوا صاحبها، خوفا منه ومن …كلمته.
الشاعر الشهيد كمال ناصر، قم…ها أنا أضع يدي بيدك لأذكّر العالم أجمع أننا لسنا من وهم بل نحن حقيقة، أننا هنا باقون وأننا لطالما كنا، ما بقي التين والرمان والزعتر والنرجس والبرتقال والزيتون…آه برتقالتي، أناديك في سري وعلني…أحلم بقطرة تنعشني من رحيقك وبمهلبية البرتقال التي علمني إياها أبي له الرحمة…
إخضرّت عيناك فصارت تقرأ المحبة وعشقت يداك الثمار فتحول يراعك إلى تربة خصبة وورقتك إلى ماء فنطقت بذور…لطالما كنت ولا زلت “ضمير الثورة الفلسطينية”.
شاعرنا، كاتبنا، مثقفنا، الرجل السياسي بامتياز، الشهيد الحي إسمه كمال بطرس إبراهيم يعقوب ناصر. اهتزت أرض غزة وربت فولد فيها الضمير عام 1924. ترعرع في مدينة بيرزيت حتى أصبح شابا يطمح للحياة الجامعية فقررأن يستكمل دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت حيث تخرج منها عام 1945 بشهادة البكالوريوس في العلوم السياسية. عمل في التدريس لفترة من الزمن ومن ثم أسس جريدة البعث في رام الله ومن ثم مجلة الجيل الجديد، في مرحلة الصراع الدامث والنكبة، ما جعله يخوض معاركه السياسية حيث كان أيضا عضوا في حزب البعث العربي الإشتراكي، فقرر أن يسلك طريقًا ديبلوماسي برلماني عبر الإنتخابات النيابية البرلمانية في الأردن وفاز باستلام مقعد نيابي لقضاء رام الله عام 1956.
رحلته الجموحة والوطنية جعلت محتل وطننا المقدس المفدى، “فلسطين”، يضعه في بؤبؤ عيونه. قام هذا الإحتلال بتتبّع كافة أعماله ودأب على أن يعطيه حيّزًا هامًّا من وقته ليحرقه ويقضي عليه في التوقيت الذي يراه مناسبًا له. فكانت الملاحقة تارة بإبعاده عن فلسطين سنة 1967 بعد الحرب مباشرة وتارة بالتشويه فيه.
استمر ناصر فلسطين بنصره على الإحتلال بالفعل والعمل والكلمة، بالوجود غير الواهم، حيث تم انتخابه في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية فصار المتحدث الرسمي بإسمها.
نعم، إن للكلمة فعل نوعي. فببركة أسماء آبائه وأجداده من بطرس إلى يعقوب إلى ابراهيم فالكمال الناصر، نال ضميرنا رئاسة “دائرة الإعلام والتوجيه القومي” وكذلك مجلة “فلسطين الثورة”. تدرجت أعماله بالكلمة لتشمل رئاسته الدائمة للجنة الإعلام العربي التي أسستها جامعة الدول العربية في ذاك الوقت.
أما في الكتابات والشعر فكان للكمال الفلسطيني مجموعات شعرية وقصائد ونثر كالتي افتتح بها مجلة “فلسطين الثورة”، ومجموعة “جراح تغني” التي نشرها عام 1959، إضافة إلى ملاحم وثلاث مسرحيات ك “التين”، “مصرع المتنبي”، “الصح والخطأ” وملحمته الشهيرة ب “أنشودة الحق”.
له مقولة شهيرة:
“نحن هنا رغم الأذى والجحود، مواكب تمضي وأخرى تعود، نحن هنا نفجر الإيمان في دربنا نورا فينمو في ثرانا الوجود”.
تكنى الشاعر الشهيد كمال ناصر بضمير الثورة الفلسطينية فقد سماه بها الشهيد “أبو إياد”، صلاح خلف، لما استشف منه شفافية وروح متفانية بضمير تام تجاه قضيتنا الفلسطينية.

كتب أستاذنا وضميرنا الإنساني، كمال ناصرمذكراته بعد الكارثة التي حصلت في ال”ضفة الغربية” لفلسطين على يد الإحتلال وقد تخلّدت أعماله في لجنة تم تأسيسها بعد استشهاده لحفظ كامل أرشيفه عام 1974. لا يمكننا أن ننسى أنه كان يتولى رئاسة مجلة فلسطين الثورة التي ذكرت عنها سابقا والتي كانت المجلة الرسمية الناطقة بإسم منظمة التحرير من حزيران 1972 حتى 10 نيسان 1973 حيث كان تاريخ استشهاده في بيروت على يد مخابرات الصهاينة باغتيال كان اغتيال لكرامتنا وضميرنا في أوج الثورة الفلسطينية – اللبنانية ضد محتل فلسطين، حيث استشهد معه رفاقه القادة، شهداء فلسطيننا الكرام، كمال عدوان وأبو يوسف النجار في عملية الإغتيال التي سميت ب”عملية فردان”، حيث أن فردان هي المنطقة التي كانوا فيها في قلب بيروت والتي أحبها كثيرًا ولي فيها سنوات من الذكرى الجميلة…
ولأن الحنظلة تلاحقنا وقهرنا لا ينتهي، فقد تم دفن شهيدنا كمال ناصر قرب غساننا، قرب العائد إلى حيفا والذي سنلف ظهر حنظلته لنعيده بلا أدنى شك، غسان كنفاني. فقد كانت وصية الكمال الفلسطيني كلمة أيضا، “ادفنوني بقرب غسان كنفاني”.
وشكرًا لجامعة بيرزيت التي أحلم أن أكمل فيها دراسات الدكتوراه وأن أتحدى تلك الحدود القاتلة، كما تلك الكلمة القاتلة، التي سفكت دماء الشاعر والكاتب والسياسي الوطني الشفاف، كمال ناصر، لأنها كرّمت ضمير الثورة الفلسطينية على طريقتها، فقد سمت أكبر قاعة في حرم جامعتها الكريمة، بإسمه، ذاك الإسم الذي يملأ ذاكرتنا معاني، كمال ناصر. إنه ليس كلمة، إنه حقيقة، إنما كلمته كانت…الكلمة القاتلة
