موت مدرسة
ما يجعلني أكتب عن موت المعلم والمتعلم، هذا العام الدراسي الجديد، المقبل علينا (2021/2022) ، هو أنني ذقته، نفسي بنفسي، مع بداية الحرب الأهلية التي إنطلقت في لبنان العام 1975، ودامت لعامين متتالين. وأما غيري فيرى أنها دامت زهاء خمسة عشر عاما. كانت خلالها، يخبو أوارها، ثم إذا به يشتد.
كنت شاهدا على إنطلاقتها. كتبها أخي، بدمه. كان أول شهيد للجيش يسقط، على “جسر الباشا”، في منطقة الحازمية، ببيروت، وينقل بالطوافة العسكرية إلى ثكنة عندقت في الشمال، على مبعدة من قريته، ويشيع جثمانه تاليا، في بلدته مشتى حسن، تحت شبابيك المدرسة التي ودعها قبل أشهر، متطوعا في الجيش.
ما كان الناس قد تعودوا بعد، على وداع الشهداء. لذلك سارت القرى كلها في موكب الوداع الأثير للدولة.
كان ذلك في تشرين العام1975. تسابق إلى المدرسة طالبان. فاجآني وأنا ناظر إلى جانب المدير، نقوم بتسجيل الطلاب للسنة الدراسية الجديدة.
نزل علينا الخبر مثل الصاعقة. ركضت إلى البيت مثل المجنون.كانت قدماي تنهب الدرب الجبلي من أعلى التلة، إلى بيتنا نهبا. أغلق المدير المدرسة. توقف تسجيل الطلاب. دخل الموت إلى المدرسة، فصلا جديدا من فصولها، لم نعتده.وخيم سكونه على غرفة الإدارة وغرفة النظارة وغرف التدريس والملاعب. وأعلن في مطلع العام الدراسي، بدون إعلان رسمي أو شعبي، موت المدرسة.
كان ذلك إعلانا مؤولا، بإبطال المدرسة، وتوجه من فيها من معلمين وطلاب، للإنتشار خارجها. كان القرار غير المعلن، إغلاق الخارج عليها، تماما مثلما تغلق مقبرة.
كانت الحرب الأهلية تشتد يوما بعد يوم. وكانت مظاهر الدولة، تغيب عن البلاد يوما بعد يوم. وكانت الرواتب تتعثر في الوصول إلى الموظفين. ثم إذ هي تنقطع عنهم بالكلية. ويطول إنقطاعها، كلما كانت تشتد الحرب الأهلية.
كان ذلك العام الدراسي، أول عام كارثي حقا، على المدرسة.
شهدت بنفسي، كيف إنقطع المدرسون عن الإتيان من طرابلس ومن البلدة، ومن جوارها، إلى المدرسة. وكيف إنصرف التلاميذ إلى بيوتهم، بلا قرار. وكيف صارت المدرسة، بعدما هجرها التلاميذ والمعلمون، قاعا صفصفا.
لم تكن الحرب، قد إشتدت بعد في المنطقة. تأخرت في الوصول إليها، حتى بداية الربيع، مع إختلال الأمن عن الحدود. وفي البلاد. وعلى الطرقات. ومع إخلاء مواقع السلطات.
أذكر أن بعض التلاميذ إجتمعوا حولي. صرت أمضي أوقاتي معهم في البيت. نسهر. نحرس. نتعلم شؤونا أخرى غير الدرس.
صرت أذهب إلى الصيد بصحبتهم. كانوا يعلمونني على الطرد والقنص والصيد.
كنت بصحبتهم، أذهب إلى الصيد في البساتين والجنائن و الحقول. وكنت أخرج معهم في المواسم، نرابط في القنن والمهاوي.
كذلك كان بعضهم يصحبني إلى النهر. هناك أتعلم منهم، الصيد النهري. في الأنهر المحيطة بالبلدة وجوارها.
كانت الأيام تمضي بصحبة التلاميذ، خارج جدران المدرسة. كنا نتذكرها، ونحن في البراري، وقد أخذنا نبتعد عنها، فنتبادل الأحاديث عما كان يجري فيها. صارت الأحاديث عنها من الذكريات.
لا زلت أذكر من الطلاب، من كان يعلمني التصويب على الطرائد. ومن كان منهم من يعلمني رمي الشباك في أحواض النهر. كنت أشعر في الإنقلاب على الدور المدرسي. كنت أشعر في إنقلاب دوري. كنت أشعر في إنقلاب التلاميذ علي. صرت أشعر، أنهم جميعهم، متفوقين علي.
كنت أثناء عودتنا، إلى القرية، ننظر إلى جدران المدرسة بحزن. كانت حجارتها السوداء، تشعرنا بالبكاء. وكانت شبابيكها ونوافذها المغلقة، قد علقت بقلوبنا، فصارت تنزف دما ودمعا، كلما إقتربنا منها، ولو عن بعد.
كانت الأيام والأسابيع والأشهر تمضي. وكانت المدرسة، شاهدة على قبر، بجوار قبر.
كنت أشعر، كلما نظرت إليها من دارتي، إنها إعلان موت.
سمعت بموت أخي بين جدرانها. ثم صرت أشاهد موتها، أشهده، أشهد عليه، يوما بعد يوم، كلما توسعت علينا دائرة الحرب.
مات أخي. ماتت الدولة. فماتت كل المدارس دفعة واحدة، بعد تقدم الحرب.
أخذ المعلمون يفتشون عن حرف بديلة: كان أحد الزملاء قد أخذ في جمع قطيع من الغنم، يسرح به. يعاونه بعض التلاميذ الذين، كانوا يلاقونه، حيث يقيل في المروج و على الأحواض، أو تحت ظلال شجر الدلب.
إلتمس مدير المدرسة صنعة له: كان يربي النحل. ثم إذ هو يطلب الركاب، ليقلهم بسيارته، إلى الجهات. كان ينزل كل صباح، إلى ساحة القرية، يهمس للناس بكل خجل وإحساس: تكسي. تكسي.
حمص. طرابلس. عندقت القبيات. حلبا. بيت جعفر. الجرد.
كان من المدرسين، من يتعلم النجارة والحدادة والزراعة وهندسة المكانيك والكهرباء.
تفرق المدرسون جميعهم، على المهن الحرة. أنشأوها لأنفسهم.
تفرق المدرسون على أعمال بديلة من الصباح حتى المساء. يطلبون العيش والمعاش، من سوق الحرف النافقة.
تسارعت وتيرة الضغط على اللبنانيين: فقدت المحروقات من الأسواق. مكث جميع الناس في قراهم. ركنت السيارات في الدارات، وصار الناس يستعينون بالدواب لقضاء حوائجهم، من القرى المجاورة. أما من كانت حاجته تلح عليه في المدينة، فكان يستعين بالمسلحين، لتعبئة سيارته بالبنزين. ثم يسير على بركة الله. يصيح: يا قاضي الحاجات.
كانت الحرب الإقتصادية، شديدة الوطأة على أهل القرى، تماما، كما كانت شديدة القسوة على أهل المدن.
أذكر أن الحرب بالسلاح وبالمال، إستطاعت أن تجعل المدرسين والتلاميذ كلهم، في مهب الريح. وأن يصير العام الدراسي، في خبر كان. وأن تموت المدرسة.
تعاودني الذكريات اليوم، والناس على أبواب المدارس. بلا وسيلة نقل. بلا رغيف خبز. بلا عبوة حليب. بلا علبة دواء. بلا قطرة ماء.
الناس بلا رواتب. بلا أموال. نهب اللصوص أموالهم في وضح النهار. والدولة غائبة. الدولة سائبة. بعضها شريك اللصوص، في نهب مال الناس.
موت مدرسة، ليس من الماضي. هو اليوم تحت أنظار المسؤولين، عن الحرب الإستباقية التي تشن على لبنان، تعلن مع موت المدرسة، موت جميع الناس.